عن «دار فضاءات» وبالتعاون مع الصالون الأدبي في مونتريال-كندا صدرت الطبعة الثانية لرواية «أيام قرية المحسنة» للشاعر العراقي المقيم في كندا عيسى حسن الياسري.
من الواضح أن خطاب الرواية السردي أماط اللثام عن أحداث تبدو واقعية بنماذج شخوصها الإنسانية وبأمكنتها التي رُسمت ملامحها ببراعة ضمن أنساق السرد الأمر الذي يجعل القارئ يعيش ضمن تفاصيل المكان، وتميز هذا النص ببنية متينة ورصينة تمظهرت على طبيعة بناء المشاهد التي أدخلنا فيها الروائي والتي تميز فيها الخطاب بحالة من الثراء اللغوي ولا شك أن خلفية الروائي الشعرية أثرت بشكل أو بآخر على أنساق الحوار ومضامينه المكتنزة بالمعاني العميقة من خلال أسلوب هادئ.
وما يثير الإنتباه في تلك الرواية التي يمكن وصفها بأنها تؤرخ لمقطع زمني معين من تاريخ تلك القرية الهادئة الغافية على أحد روافد دجلة الخير أن أحد اسباب تميزها هو تركيزها على أدق تفاصيل مشهد القرية وتفاعلاتها مع شخوصها، وقد حاول الكاتب إغراق الجو النفسي العام بمزيد من التفاصيل الصغيرة والتي تكشف جانباً كبيراً من ثقافة القرية والقرى المجاورة أو القريبة لقرية المحسنة. من هنا تمكنت تلك التفاصيل من إضفاء دور حيوي على الهيكل المعماري للرواية.
والرواية بما تمتلكه من عناصر تميز فإنها قادرة على أخذ مكانتها في عالم السرد الروائي، فعلى الرغم من جرعة الواقعية العالية التي غلفت أجواء السرد إلا أنها لم تؤثر على جمالياته وتراتبية أنساقه وتتابع صوره التي تبدو من خلال الوصف وكأنها لوحة تشكيلية تشي بالكثير من العلامات والدلالات الفلسفية ضمن سياق بصري يعج بالمشاهد الحميمية التي تعكس قيماً لحقبة زمنية معينة، فالتفصيلات الوصفية الواردة ضمن سياق السرد يحيلنا إلى عوالم الريف وأجوائه العابقة بشذى أزهاره وربوعه الغناء بالخضرة والمياه، والفطرة البشرية، عوالم تجعل القارئ يستنشق عبق تلك الأيام التي قد يترحم عليها المرء وهو يشهد اليوم واقعاً بالغ الوحشية بكل ما تحمله هذه المفردة من وقعٍ قاسٍ، لا سيما فيما يتعلق بالقيم التي باتت تحكم عالم اليوم الذي نعيشه الآن بكل مراراته، فالصورة التي رسمها لنا الياسري عبر نصه تدفع بإتجاه إستحضار المكان الذي يعد أحد أبطال تلك الرواية بوصفه بؤرة مركزية في بنية النص.
ومن الواضح أيضاً أن الكاتب عمد إلى إنتقاء شخصيات الرواية بعناية لتمثل كل شخصية حالة وقيمة معينة بذاتها تتشابك خطوطها وتتصارع ضمن قالب درامي ليخلص إلى انتصار قيمة معينة على أخرى، وربما يكون الكاتب قد إستقى هذا النص من تجربة حياتية عاشها في قريته في بواكير حياته الأولى ومازالت ذاكرته تحتفظ بشريط الذكريات التي جسدها عبر نص روائي جلي الملامح، فيه من المعايير الفنية ما يجعله مادة خصبة للتحليل والنقد لا سيما مع إكتنازه لمفردات إنسانية مرهفة عكست شيئاً من تاريخ قريته عن طريق نبشٍ لأحداثٍ موغلة وتفاصل مسهبة ولكن من خلال بناء فكري وفني إتسقت عناصره لتعمق المسار الإنساني عبر فعل الشخوص الذين عاشوا حياة صعبة في قريتهم وخارجها. ومن الملاحظ في مفاصل الرواية، التي تقترب من كونها مذكرات شخصية طوعها الكاتب لمفردات الإبداع الأدبي، أنها أظهرت قدرة الكاتب على خوض غمار تجربة أدبية جديدة إلى جانب التجربة الشعرية في مغامرة فنية إعتمدت على ثراء تجربة حياتية واسعة إشتبكت مع واقع زاخر بمحفزات ومثيرات مدت الكاتب بمفردات غنية مستخدماً طاقته الإبداعية على إقتناص اللحظة الزمنية وإعادة إنتاجها وفق نسق فني طموح على إيقاع نغمات شاعرية تتسق مع هدوء وشاعرية أجواء القرية.
وفق هذا النهج الفني أراد الكاتب أن يُبقي جسور الجدل الدائم لغرض إعادة قراءة صفحات الماضي بعيون الحاضر وإستقراء نبوءات المستقبل، أيام قرية المحسنة إضافة أدبية جديدة لأرشيفِ شاعرٍ عرف بشغفه بكل ما يمت بصله لمكانه الأول قريته التي شهدت بزوغ أولى تجاربه الشعرية ليكشف النقاب عن مَلكة روائية تملك من الأدوات الفنية القادرة على إنتاج نص إبداعي فيه من الجودة والأداء والتقنية ما يضاهي إنتاجه الشعري المميز.
Leave a Reply