الشعر بمعنى خروجه عن المألوف. على أقل تقدير.. هذا ما تثيره قراءة المجموعة الشعرية “يقطع الليل بالسكين” لصاحبها الشاعر السوري الأميركي فادي سعد، فنصه الأول (المرآة) يمثل عتبة للدخول إلى تلك الغرابة. ليست الغرابة المثيرة للدهشة على أية حال، ولكنها الغرابة المنافية للقانون، والعادة، ولاقتراح الطبيعة، فحتى ولو تطابقت فكرة نص “المرآة” مع فكرة الفيلم الأميركي “قصة بنجامين باتن المثيرة”، تبدو الفكرة، وهذه المرة كنص مكتوب، زاوية أخرى لامتحان الأشياء التي لطالما ألفناها.
احذروا الأفكار الغريبة! فهي إن استطاعت أن تفرض منطقها ومشروعيتها، فسوف يتزلزل المكين والمتعارف عليه والمتفق عليه.. وهذه خطورة الشعر. قلب الموازين، وليس بالضرورة قلب الطاولة! والأهم.. وضع اليد على فرادة التجربة الشخصية لصاحب النص الشعري، ومثالنا في هذه الحالة الشاعر فادي سعد. ما جدوى القراءة.. إذن، إذا كان النص يخص صاحبه فقط؟ قد يقول قائل. الجواب، قد يكون.. الفضول، أو الرغبة بمعرفة الأفكار والخواطر التي تداهم الغير. أو قد يكون الجواب. التكييف، أو تقليد التجربة.
من الصعب الاستشهاد بشاهد شعري من مجموعة سعد الشعرية، واستخدامها للتدليل على بعض الأفكار، على طريقة كتابة مواضيع الإنشاء المدرسية، ففي تلك القصائد العمودية كانت المعاني مكتملة ونهائية في الأبيات الشعرية. وفي نصوص “يقطع الليل بالسكين”، لا يكتمل المعنى إلا بكامل النص، وقلما نحظى بمحطات مدهشة أو مفاجئة في منتصف الطريق. فالدهشة هي في الطريق نفسه.
والنصوص في هذه المجموعة تنبني بالسرد، السرد الوظيفي البنائي، حيث لبنة لبنة، جملة جملة، يسير النص إلى اكتماله، وإلى فكرته، وتكوين ملامحه وبيئته، ومقولاته. فلا سبيل آخر لمعرفة المصير الذي سيحيق بإصبع قطعها صاحبها وزرعها في الحديقة إلا بمتابعة القراءة حتى النهاية. “جلس رجل على طاولة العشاء، يقطع ما تبقى من جسد الدجاج. بعدما انتهى من الأكل، قطع أحد أصابع يديه (قيل إنه الخنصر) وزرعه في حديقة المنزل”. ص (16).
مشكلة شعر فادي سعد أنه شعر مثقف وأنه يلوذ بالسرَيلة أكثر مما يجب أو ينبغي. ولكنه مع ذلك شعر قابل للعطب. شعر هش. ويشعر القارئ بنفسه وهو يعامله برقة، أو بتعاطف. و الشعر عند سعد هو الأساس وهو المرجع للحياة وللمصير.. وعلى كل الأشياء الأخرى أن تكون تابعة له. أن تدور في فلكه. الشعر يجب أن يكون الحياة نفسها، والحقيقة نفسها، لا أن تكون القصائد مجرد مناسبات للحديث عن الحياة وشؤونها والأفكار والعواطف وسيولتها. سعد يختار الطريق المعاكس. أو لنقل إنه يعكس الدرب. لا يريد أن يكتب المعاش. يريد أن يعيش المكتوب. فبدل أن تكون التعابير صادقة ومطابقة للحقائق أو للأفعال، سيقوم سعد بتغيير الأفعال ذاتها لتتطابق مع التعابير. سيجعل من التعابير أقوالاً. وصفاً مطابقا تماما دون كاف التشبيه.. لينفي المعنى الاستعاري المصاحب لوظيفة الكلام: “سأحاول أن أكون صادقاً جداً هذه المرة. سأبحث عن امرأة أضع قلبي تحت قدميها، لأكتب عن امرأة حطمت قلب رجل، …، أو.. خطرت لي فكرة عظيمة يمكن أن تصبح أسطورة في حكايات الصدق. استل الشاعر سكيناً صدئة وبدأ بتقطيع أطرافه السفلية. ماذا تفعل؟ تصرخ حبيبته. سأكتب قصيدة عن شاعر تعذب حتى الموت”. (شاعر صادق، ص36).
واللغة عند سعد ليست لغة شعرية، بمعنى أن اللعب على العلاقات اللغوية داخل الجملة الواحدة، ليس خيار الشاعر الذي يميل إلى اعتماد المعنى الشائع للمفردة، بدل اقتراح معنى آخر لها، وكذلك فإن الآليات الشعرية بمعناها التقليدي تكاد تكون شبه غائبة، ناهيك عن التقشف اللغوي الذي يقود إلى انكتاب النص بأقل قدر ممكن من العناصر اللازمة لتبيان هيئة الأفكار، ولكن الذي يجعل من هذه النصوص شعراً هو المناخ الشعري، أو طريقة التفكير الشعري: “لا… الأبيض فاقع ويتسخ بسرعة، والأسود يشعرني باقتراب الموت. يجيبها من خلف بنطاله الرمادي بحنق ظاهر. لا أحب أن أكون سعيداً كثيراً، ولا مكتئباً كثيراً. ما أبحث عنه هو المزاج المناسب لقيادة سيارة في يوم ليس غائماً معتماً ولا مشمساً مشرقاً”. (المزاج، ص40).
ومع أن المجموعة الشعرية الصادرة لدى “دار الغاوون” في العام 2009، حملت على غلافها النص الكامل لقصيدة “احترام”، إلا أن النص الذي حمل عنوان “غرفة”، يكاد يكون أكثر النصوص.. تعريفاً بالجو الشعري العام للمجموعة، والأكثر تعبيرياً عن طريقة التفكير الشعري التي يمارسها الشاعر فادي سعد خلال كتابته الشعرية.
“وحيدا، كان رجل يحمل جداراً. كان الجدار يحدق في الرأس المجرد من الشعر. حذار من العجلة. يهمس الجدار، فرأسك الأملس هذا زلق جداً.
وقع الجدار في الحب. الوحدة مملة، يتنهد. كان يحلم دائماً بإنجاب أطفال يحملون اسمه ويملؤون حياته الحجرية القاسية. سيصعب علي حملكم جميعا يصرخ الرجل. لكن الجدار كان مصمماً على بناء عائلة. بعدما وجد محبوبته، أنجب منها صبيين. أما الرجل المسكين ذو الصلعة اللامعة، فانتهى إلى حمل جدران أربعة..”. (غرفة، ص 50).
Leave a Reply