صبحي غندور
كان للشباب العربي دورٌ مهمٌّ جداً فـيما حدث منذ أربع سنوات من انتفاضاتٍ شعبية فـي عدّة بلدانٍ عربية. ففـي هذه البلدان كان الجيل الجديد، غير الحزبي أو المنظّم سياسياً، هو أساس الحراك الشعبي الذي حدث فـي كلٍّ منها والذي أدّى إلى تغييراتٍ فـي الحكم أو فـي طبيعة القوى السياسية الفاعلة. لكن إلى الآن نجد أنّ هذا التيار الشبابي الذي ثار لم يقطف ثمرة هذه الانتفاضات الشعبية، بل قامت بحصد النتائج السياسية قوًى لها تاريخها العريق فـي العمل السياسي وفـي المعارضة، لكنّها حتماً لم تقد هي الانتفاضات الشعبية، ولم تُشعل شرارتها ولم تصنعها، فبعضها حصد (ولو بأسلوبٍ شرعي أحياناً) ما زرعه غيرها من قوًى شبابية لم تكن أصلاً مسيّسة، ولعّلها لا تجد لها الآن فـي الحكومات الجديدة من يُمثّلها أو يُعبّر عن أهدافها وطموحاتها.
هي معضلةٌ فـي كثيرٍ من البلدان العربية، حيث يحصل حراكٌ شعبيٌّ، شبابي بمعظمه، لكن بلا وضوح فـي القيادة والهُويّة الفكرية والسياسية، وإذا حصل أحياناً هذا الوضوح، نراه بعيداً عن السّمة الوطنية العامة ونافراً من الهويّة العربية ومتّصفاً بالفئوية الطائفـية أو الحزبية.
وحينما تكون المراهنة دائماً على الأجيال الشّابة وعلى دورها الفاعل فـي صناعة المستقبل، فأيُّ جيلٍ عربي جديد هو الذي نأمل الآن منه إحداث التغيير نحو الأفضل فـي الأوطان العربية؟!.
إنَّ «الجيل القديم» فـي أيّ مجتمع هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه «الجيل الجديد» ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله. فـيصبح «الجيل القديم» مسؤولاً عن صياغة «الفكر»، بينما يتولّى «الجيل الجديد» صناعة «العمل والحركة» لتنفـيذ الأهداف المرجوّة.
هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة فـي أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا «الجيل القديم» معفـيّ من مسؤوليّة المستقبل ولا «الجيل الجديد» براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضخّ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبلٍ أفضل.
المشكلة الآن فـي الواقع العربي الرّاهن هي أنّ معظم «الجيل القديم» يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات الذهنيّة المرَضيّة الموروثة، التي كانت مسؤولةً فـي السابق عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التخلّف السياسي والاجتماعي والثقافـي فـي مؤسّساتها المختلفة.
فالمفاهيم المتداولة الآن فـي المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد، وهي التي ترشد حركته. لذلك كنّا نرى الشّباب العربي، قبل العام الماضي، يتمزّق بين تطرّف فـي السلبيّة واللامبالاة وتطرّف فـي أطر فئويّة بأشكال طائفـيّة أو مذهبيّة، بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله.
لكن حينما يبحث بعض الشّباب العربي المعاصر عن أطر فاعلة للحركة السياسية السلمية المنظّمة، يجدون أمامهم فـي معظم الأحيان جماعاتٍ تزيد فـي أفكارها وممارساتها من حال الانقسام بالمجتمع، أو قد يدفع بعضها بالعناصر الشّابة إلى عنفٍ مسلّح ضدّ «الآخر» فـي الوطن، غير المنتمي لهذه الجماعة أو طائفتها أو مذهبها!
وهذه الجماعات والمفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل المقرب غريباً والصديق عدوّاً!.. فـيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفـيّة التمايز عن «الآخر» وهدمه، لا الحوار والتفاعل معه للبحث عن كلمةٍ سواء لصالح الوطن وكلّ المواطنين.
ربّما تكمن مشكلة الشّباب العربي المعاصر فـي أنّه لم يعش حقباتٍ زمنيّة كان الفرز فـيها بالمجتمع يقوم سلمياً على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفـيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة. لكن سوء الممارسات والتجارب الماضية، إضافةً إلى العطب فـي البناء الدستوري الداخلي وإلى التآمر الخارجي المتواصل، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاسْتُبدِل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطائفـيّة والمذهبيّة والقبلية والمناطقيّة، وأضحى العرب فـي كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون عن دينهم وثقافتهم ما لا يفعلونه فـي ممارساتهم!.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن لخطابٍ عربيٍّ نهضويٍّ مشترَك يستقطب الجيل الجديد، كما هي الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها.
فهناك الآن ثلاثة عناصر تصنع الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي فـي شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الباحث عن مستقبل أفضل.
أيضاً، هو أمرٌ مهمٌّ جداً أن لا يتمّ فصل المسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عن قضايا الوحدة الوطنية، والتحرّر من هيمنة الخارج، والتأكيد على الهويّة العربية للأوطان وللمواطنين فـي عموم البلاد العربية. إنّ القضايا التي حرّكت الشارع العربي فـي السنوات القليلة الماضية، تمحورت حول «الإصلاحات السياسية والاقتصادية» وقضايا الغلاء والفقر وفساد الحكم وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وهي كلّها مسائل مرتبطة بالسياسة «الداخلية»، وهذا ما تدركه القوى الدولية الكبرى ولا تمانع فـي تغييره. فما يهمّ واشنطن مثلاً ليس من يحكم فـي هذا البلد أو ذاك داخل المنطقة العربية، بل بقاء هذه البلدان فـي محور العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، والوفاء بالالتزامات التي كانت عليها الحكومات السابقة تجاه أميركا.. بل وفـي بعض الحالات تجاه إسرائيل أيضاً!.
إنّ التشويه يحصل الآن للصراعات الحقيقية القائمة فـي المنطقة، ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً مَنِ العدوّ ومَنِ الصديق، وفـي أيِّ قضية أو معركة، ولصالح من؟! بينما الأمّة العربية اليوم هي فـي انشدادٍ كبير إلى صراعاتٍ داخلية قائمة، وضحايا هذه الصراعات ليسوا من البشر والحجر فـي الأوطان فقط، بل سقط ضحيّتها أيضاً الكثير من القيم والمفاهيم والأفكار وعناصر الوحدة الوطنية.
فالدين والطائفة والمذهب، كلّها تسميات أصبحت من الأسلحة الفتّاكة المستخدمة فـي هذه الصراعات. كذلك العروبة والوطنية، هما الآن أيضاً موضع تفكيك وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، فـي الوقت الذي يتمّ استخدامهما لصراعاتٍ مع جوارٍ «عربي» أو «إسلامي»!.
والحرّية والديمقراطية مطلبان يتصادمان الآن، فالنماذج «الديمقراطية»، التي جرى التشجيع عليها فـي العقد الماضي، كانت تقوم على قبولٍ بالوصاية الأجنبية على الأوطان من أجل الحصول على آليات ديمقراطية فـي الحكم! أمّا المقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، فقد أصبحت لدى الرافضين لها مذهباً فئوياً!!
ورغم ومضات الأمل، التي تظهر عربياً بين فترةٍ وأخرى، ورغم استمرار العمل من أجل التغيير السليم على أكثر من ساحةٍ عربية، فإنّ المراوحة فـي المكان نفسه (إن لم نقل التراجع) هي السِّمة الطاغية على الأوضاع العربية.
إنّ الثورات وحركات التغيير ليست هدمَ ما هو موجود فقط بل هي بناءٌ لما هو مطلوب، وهذا يعني عملياً ضرورة الربط والتلازم بين الفكر والقيادة والأسلوب.
هنا مخاطر تغييب دور الفكر فـي عملية التغيير التي قادها الجيل العربي الجديد، ومساوئ عدم الوضوح فـي ماهيّة «الأفكار» أو طبيعة «القيادات» التي تقف خلف «الأساليب» التي يعتمدها الشباب العربي فـي أكثر من وطن عربي. إذ لا يجوز أن يرضى هؤلاء الشباب الذين يضحّون بأنفسهم أن تكون «أساليبهم» السليمة هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تسرق تضحياتهم وإنجازاتهم الكبرى وتُعيد تكرار ما حدث فـي السابق فـي المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلّحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع.
Leave a Reply