استفتاء كردستان: ما حقيقة الموقف الأميركي؟
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
هدوء ما قبل العاصفة. هكذا يبدو المشهد العام في إقليم كردستان العراق، بعد انتهاء الاستفتاء المثير للجدل، الذي صوّت الأكراد من خلاله على الاستقلال، بنسبة قاربت ٩٢ بالمئة، بحسب ما أعلنت سلطات الإقليم بغياب أي مراقبة دولية.
وفي محيط ذلك الإقليم المتمرّد، الصخب سيّد الموقف، حيث تتكوّن العاصفة المنتظرة، إن في التحرّكات المتدرّجة التي بدأت تتخذها الحكومة العراقية المركزية، وأوّل غيثها إغلاق مطاري إربيل والسليمانية، أو على مستوى التحرّكات الأكثر خطورة، الممتدة من شمال غرب إيران إلى جنوب شرق تركيا، والتي تتخذ شكل استعدادات عسكرية، تحت مسمّيات متعددة، سواء مناورات أو حشود.
هكذا يتضح أن وقت الكلام قد انتهى، ليعلو صوت التصعيد، على كافة الأصعدة، حتى أن الدعوات التقليدية لمعالجة المشاكل بالحوار، لم تعد تجد من يرعاها، طالما أن المحظور قد وقع، وقد تكون تداعياته أكبر من مقاطعة سياسية أو اقتصادية، فثمة عبوة ضخمة، مجمّعة عناصرها بالأصل، ولم يكن ينقص لتركيب صاعقها سوى مغامرة غير محسوبة العواقب من قبل مسعود البرزاني.
ولعلّ سلسلة المواقف الصادرة من هنا وهناك، تشي بأن الكل ذاهب في طريق اللاعودة.
تصعيد.. تصعيد
في بغداد، يبدو الموقف حازماً جداً هذه المرّة. رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رأى أن النافذة الوحيدة التي يمكن فتحها للحوار مع إربيل تقتصر على إلغاء نتائج الاستفتاء والتراجع عن الخطوات الإنفصالية، وهو ما لا يمكن للأكراد -ليس في العراق فحسب بل في كل مناطق انتشارهم- القبول به، خصوصاً أن السنوات الخمس الماضية، جعلت هدفهم التاريخي أقرب إلى التحقيق. وفي حالات كهذه، كما أظهرت تجارب تاريخية، يصعب الحديث عن تنازل!
من جهة أخرى، انتقد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عملية الاستفتاء في كردستان، وقال في مؤتمره الصحافي الأسبوعي الثلاثاء الماضي، إنها «عملية فردية لم تحترم رأي الشراكة أو الإرادة الدولية» لافتاً إلى أن ثروات إقليم كردستان تدار بعيداً عن الرقابة وتذهب إلى حسابات شخصية خارج البلاد، في اتهام ضمني للبرزاني.
وأضاف أن آخر مهلة أمام حكومة كردستان لتسليم مطارات الإقليم إلى سلطة المركز ستكون مساء الجمعة (مع صدور هذا العدد)، كما دعا العبادي سلطات الإقليم إلى إعادة كل المناطق التي استحوذت عليها، والتي تقع خارج حدوده الإدارية.
كل المؤشرات تشي بأنّ احتمالات الصدام تتصاعد، وخصوصاً أن التصعيد لن يقتصر بطبيعة الحال على الحكومة المركزية في بغداد، والحكومة الكردية في إربيل، فالحالة الكردية يمكن تشبيهها بـ«صندوق باندورا»، الذي ستخرج منه كل شرور الشرق الأوسط.
هذا الأمر يبدو واضحاً في التحرّك السريع الذي قوبل به الاستفتاء الكردي، من قبل أطراف إقليمية، أبرزها إيران وتركيا، اللتين تنظران إلى مغامرة البرزاني باعتبارها تهديداً مباشراً وحقيقياً لأمنهما القومي، فتعزيز النزعة الاستقلالية لن تقتصر مفاعليه على أكراد العراق، إذ ثمة بيئة مواتية لنموّه في أماكن أخرى، إن في المحافظات الجنوبية الشرقية لتركيا، حيث تتجذر النزعة الانفصالية، أو في شمال إيران، حيث ينشط حزب «بيجاك» المرتبط أيديولوجياً بـ«حزب العمال الكردستاني»، تماماً كما هي حال «حزب الاتحاد الديمقراطي» في الشمال السوري.
كل ذلك يدل، بطبيعة الحال، أن تركيا وإيران لن تقفان مكتوفتي الأيدي تجاه مغامرة البرزاني، حتى أن الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني تحدّث عن خريطة طريق أعدتها بلاده لمواجهة تفكك العراق بعد «الاستفتاء غير المشروع»، وهي تقوم، بشكل خاص، على التنسيق الوثيق مع الحكومة المركزية العراقية وإيران وتركيا، والذي انطلق لمنع الاستفتاء الكردي، تمهيداً لتحرّكات مشتركة، قد تتخذ شكلاً عسكرياً، في مرحلة ما، بحسب ما تظهر اللقاءات المكوكية المكثفة الجارية على خط بغداد-أنقرة-طهران. كما لم يتوان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن تهديد الإقليم بالتجويع والحصار في حال ذهب في خيار الانفصال.
الموقف الأميركي
استفتاء كردستان إذن وضع الشرق الأوسط برمّته على فوهة بركان قد ينفجر في أية لحظة، ليجرّ معه كافة الأطراف إلى مواجهة مباشرة من شأنها أن تعيد تحديد الكثير من الحسابات الجيوسياسية الإقليمية، وربما إعادة رسم الخرائط من جديد، بعد الهزائم التي تلقاها المحور الأميركي-الإسرائيلي-الخليجي!
ولا يغير في الأمر الموقف الغربي الفاتر -لا بل الرافض في بعض الأحيان- للاستفتاء الكردي. فالمواقف قبل الصدام شيء، وبعده شيء آخر.
فمن جهة، لا يزال الموقف الأميركي من الاستفتاء مريباً، ذلك أن تحفظ الولايات المتحدة على المغامرة الكردية لا تتطابق مع التحالف الوثيق الذي نسجته الإدارات الأميركية مع المكوّنات الكردية، سواء في العراق أو سوريا، لا بل أن خيارات الانفصال، ربما تشكل فرصاً هائلة للولايات المتحدة في مقارعة خصومها، سواء تعلّق الأمر بالإيرانيين أو الروس، من خلال استحداث كيان مصطنع، كذلك الذي استحدثته بريطانيا في فلسطين قبل عقود، وهي إسرائيل، الداعم العلني الوحيد لقيام كردستان.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ صنّاع السياسات في واشنطن، ربما ينظرون إلى الاستفتاء الكردي باعتباره فرصة نادرة لدفع العلاقات المتوترة مع الإيرانيين إلى نقطة المواجهة العسكرية باستخدام الورقة الكردية على حدود الجمهورية الإسلامية أو حتى داخلها. والسيناريو ذاته سيتكرر بشكل أو بآخر مع الروس في شمال سوريا باستخدام الورقة الكردية ذاتها.
على هذا الأساس، فإنّ ثمة إجماعاً بين المراقبين، سواء في الشرق الأوسط، أو في العالم، على أن الموقف الأميركي المتحفّظ على الاستفتاء لا يرقى إلى أن يكون موقفاً حقيقياً، بل مجرّد مناورة سياسية، الهدف منها تشجيع الأطراف المعارضة للاستفتاء إلى الاندفاع نحو خيارات متطرفة، في القلب منها الخيار العسكري، بما يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، تتمثل في تفجير الشرق الأوسط بالنزاعات العسكرية الاستنزافية لمحور المقاومة، بعد سلسلة الانتصارات التي حققها هذا المحور في الميدانين السوري والعراقي.
دور خليجي
هذا السلوك المريب للولايات المتحدة يتماهى مع سلوك مثير للريبة بشكل أكبر للسعودية التي كان ملفتاً للانتباه خروجها بتصريح يشي بمعارضة الاستفتاء الكردي.
المثير للدهشة في هذا الإطار، هو أن الموقف الرسمي السعودي يتعارض مع تعامل وسائل الإعلام السعودية والكتاب السعوديين المقرّبين من الأسرة الحاكمة، بحماسة إزاء الاستفتاء الكردي، باعتباره فرصة للمملكة النفطية في ممارسة دبلوماسية ناعمة تسعى للاستفادة من الانقسامات العربية ودفع التصعيد الأميركي-الإيراني إلى نقطة الذورة، علاوة على الفائدة الاقتصادية الكبرى التي يمكن أن تحققها في حال وجود دولة كردية مستقلة.
انطلاقاً مما سبق لا يمكن تلمّس الموقفين الحقيقيين اللذين تضمرهما الولايات المتحدة والسعودية سوى من خلال النظر إلى مواقف الدول الحليفة لهما، بحسب المثل الشعبي الشائع «أسرارهم من صغارهم». والمقصود في هذا الإطار، إسرائيل والإمارات، اللتين غردتا خارج سرب المواقف الرافضة أو المتحفظة على الاستفتاء.
ومع أن الموقف الإسرائيلي من المغامرة الكردية يمكن إرجاعه إلى عوامل أيديولوجية، تقوم على سعي الكيان الصهيوني إلى تحقيق نظرية «الدولة اليهودية»، إلا أن جوهره ينطلق من الدولة الكردية بحد ذاتها لطالما شكلت استثماراً سياسياً واقتصادياً يخدم مصالحها في الشرق الأوسط، وفي جوهرها ضمان وجود حليف إقليمي، في منطقة بالغة الحساسية، تلامس أربع دول إقليمية مهمة هي العراق وايران وتركيا وسوريا.
وأمّا الموقف الإماراتي، فلا يمكن فهمه سوى في إطاره الحقيقي، المتمثل في أنه يمثل صدى للموقف السعودي غير المعلن من المغامرة الكردية، وهو ينطلق بطبيعة الحال من رغبة الإمارات في توسيع مجال السيطرة على الملفات الحساسة في الشرق الأوسط، في إطار تحالفها الخليجي مع السعودية من جهة، والتحالف الخليجي-الأميركي من جهة ثانية، والذي يرجّح أن تنضم إليه إسرائيل في وقت لن يكون ببعيد.
حرب؟
ضمن هذا السياق الإقليمي، يأتي الاستفتاء الكردي ليعيد تشكيل خرائط التحالفات والتموضعات في الشرق الأوسط، فالأطراف المؤيدة للمغامرة الكردية تتطلع إلى دولة جديدة يرتفع فيها العلم الكردي إلى جانب أعلام الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات، لتشكل جبهة متقدمة لدفع التصعيد مع إيران إلى نقطة متقدمة، ربما يمكن استخلاصها من حديث محمد بن سلمان قبل أشهر، عن ضرورة نقل المواجهة مع الجمهورية الإسلامية إلى الداخل، وفي الحالة التركية، إلى المناطق الشمالية الغربية الملامسة للدولة الكردية الجديدة، والتي تحوي عنصر تفجير آخر يتمثل في حزب «بيجاك» الكردي الانفصالي.
ولكن حسابات حقل الاستفتاء قد لا تتطابق بالضرورة مع حسابات بيدره، فقيام كيان كردي في شمال العراق سيدفع بالتأكيد الأطراف المتضررة إلى خيارات استراتيجية مختلفة، بدأت تتكون ملامحها فعلاً من خلال التقارب بين إيران وتركيا، وقد يدفع بأنقرة، في نهاية المطاف، إلى حسم موقفها المتأرجح بين الولايات المتحدة وروسيا، وعندها ستكون الخريطة الإقليمية مختلفة جذرياً.
نتائج الاستفتاء
أعلنت المفوضية العليا للاستفتاء على انفصال كردستان العراق أن 92 بالمئة من المشاركين صوتوا لصالح الانفصال، وتزامن ذلك مع تفويض البرلمان العراقي رئيس الوزراء حيدر العبادي باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لإعادة سلطة الحكومة الاتحادية على جميع المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، ومن ضمنها محافظة كركوك، في حين رفضت حكومة إقليم كردستان مهلة بغداد لتسليم السيطرة على المطارات بحلول الجمعة القادم أو مواجهة حظر جوي.
وصفت المفوضية العليا للاستفتاء في إقليم كردستان عملية الاستفتاء بأنها جرت بنجاح، وأوضحت أن نحو 7.27 بالمئة صوّتوا برفض انفصال الإقليم عن العراق، وأن نسبة الأصوات الباطلة بلغت 1.21 بالمئة.
وأشارت إلى أن عدد الذين صوتوا في الاستفتاء بالداخل وصل لنحو أربعة ملايين بنسبة مشاركة 72.16 بالمئة، مشيرة إلى أن عملية الاستفتاء تمت بهدوء، وبدون أي خروق كبيرة، وذلك بحضور مراقبين دوليين ومحليين.
ولفتت المفوضية العليا للاستفتاء إلى أن هذه هي النتائج النهائية قبل المصادقة عليها من محكمة الاستئناف.
وشمل الاستفتاء محافظات إقليم كردستان الثلاثة: أربيل، والسليمانية، ودهوك، إلى جانب مناطق متنازع عليها مع بغداد، وتشمل كركوك خاصة، ومناطق أخرى واسعة في كل من محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين.
وفور إعلان النتائج نزل المئات إلى شوارع أربيل ومدن كردستان الأخرى للاحتفال.
Leave a Reply