ثمة ملاحظة مثيرة للاهتمام تطرحها جملة المواقف السياسية والتحرّكات الميدانية على امتداد الشرق الأوسط، وهي أن الكل يتصرّف، كما لو أننا في مرحلة نهائية من الصراع الدامي، الذي شهدته المنطقة، خلال السنوات الست الماضية، تمهيداً لتسوية.
على هذا الأساس، يقول الروس، على سبيل المثال، إنّ الحرب الأهلية في سوريا انتهت، وهو ما يمكن تلمّسه من المعطيات الميدانية، التي تثبت نجاح تفاهمات مناطق خفض التصعيد.
وأما الأميركيون، فيتصرفون كما لو أن الأجندة السياسية والعسكرية التي كانت المحرّك الرئيسي في الجحيم السوري خلال الحقبة الأوبامية، قد تبدّلت لصالح أجندة أكثر براغماتية في الحقبة الترامبية.
سقوط الفيتوهات
انطلاقاً من ذلك، باتت التقاطعات واضحة على خط واشنطن – موسكو، إزاء الأولويات السورية، وهو ما بدأ يتضح منذ اللقاء الأخير بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في هامبوغ فالطرفان الدوليان، الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط، وبرغم التوتر القائم بينهماعلى الساحة الدولية، يبدوان أكثر رغبة في التوصل الى تفاهمات حول أولويات المرحلة المقبلة، والمتمثلة في التصفية الميدانية لتنظيم «الدولة الإسلامية».
ولا يحتاج المرء سوى إلى رصد المسارات العسكرية من ناحية، وطبيعة التحرّكات الجارية على جبهتي الرقة ودير الزور، ليدرك أن ثمة الكثير من الفيتوهات قد سقطت –وهو ما يمكن تلمّسه، على سبيل المثال، في معارك البادية الشامية– بما يجعل كل التحركات الميدانية تنصب على هدف واحد، هو «داعش».
وما ينطبق على سوريا، ينسحب بدوره على العراق، فبعد تحرير مدينة الموصل، تتركز الأولويات الميدانية في الوقت الراهن على مدينة تلعفر، آخر معاقل «الدولة الإسلامية» في شمال العراق. ولعلّ المثير للانتباه في هذا السياق، أن معركة تلعفر تجاوزت كل العراقيل التي أخّرت انطلاقتها بضعة أسابيع، وأهمها الفيتو الذي وضعته الولايات المتحدة على مشاركة «الحشد الشعبي» في العمليات العسكرية.
وخلافاً للظروف المحيطة بمعركة الموصل، فإنّ التفاهمات السياسية سرعان ما راحت تتزاحم مع التفاهمات الميدانية، مع بدء العمليات العسكرية في تلعفر، وهو ما يمكن رصده، من خلال الانعطافة الجديدة لزعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، الذي حل ضيفاً، قبل أيام، على السعودية والإمارات، وفي الجهود الحثيثة المبذولة لنزع لغم استفتاء كردستان، بين خيار من اثنين: إما تأجيل هذا الاستحقاق الخطير، أو على الأقل إجراؤه «مع وقف التنفيذ»، بما يحفظ ماء وجه مسعود البرزاني، ويبدد المخاوف الإقليمية والدولية، التي أثارتها تركيا بالدرجة الأولى، وروسيا بالدرجة الثانية.
لبنان.. وسحر الساحر
هذا المشهد الإقليمي الجديد، يمكن اختزاله، في بعده الشامل، من خلال الخلاصات التي يمكن استنتاجها من التطوّرات الجارية على الساحة اللبنانية، بعد انتهاء معارك جرود عرسال وفليطا ضد تنظيم «جبهة النصرة»، وانطلاق معارك جرود رأس بعلبك والقاع ضد تنظيم «داعش».
وبسحر ساحر، باتت كل الأطراف الداخلية –بما تمثله من امتدادات اقليمية ودولية– متوافقة على ضرورة الحسم، وهو ما وفّر الظروف الموضوعية لانطلاق المعارك الأخيرة متزامنة من الجانبين اللبناني والسوري من الحدود، بصرف النظر عن الجدل العقيم والعديم الجدوى بشأن التنسيق بين الجيش اللبناني من جهة، والجيش السوري و«حزب الله» من جهة أخرى.
وإذا كانت المؤشرات الميدانية، التي سقطت فيها أيضاً الفيتوهات الأميركية، دليلاً إضافياً على دخول الشرق الأوسط، في مرحلة التسويات، فإنّ المؤشرات السياسية، على الساحة اللبنانية ذاتها، لا تقل أهمية.
انطلاقاً من ذلك، لا يمكن فصل ما يجري عند الحدود اللبنانية–السورية من عمليات عسكرية، عن الحراك الديبلوماسي المتعدد الأطراف، من البوابة اللبنانية، فبعد الزيارة الأخيرة للرئيس سعد الحريري إلى واشنطن، حل وزير الدفاع يعقوب الصراف ضيفاً على موسكو، التي ستستقبل بدورها رئيس الوزراء اللبناني، بعد نحو ثلاثة أسابيع، وعاد الحديث مجدداً حول توافق دولي على دعم الجيش اللبناني، في حين بدت أحدث محاولات الولايات المتحدة تغيير الوقائع على الأرض، من خلال تعديل القرار 1701، مجرّد استعراض دبلوماسي، يدرك القاصي والداني أن درجة جدّيته تقترب من الصفر.
هذا الحراك اللبناني باتجاه الخارج، تواكبه تحرّكات خارجية باتجاه لبنان. وعلى هذا الأساس، بداً ملفتاً التقاطع الزمني بين زيارتي نائب وزير الخارجية الإيراني لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا حسين جابري أنصاري إلى لبنان، ووزير الدولة السعودي للشؤون الخليجية ثامر السبهان للبنان، وهو أمر لا يمكن سوى النظر إليه، من بُعد يتجاوز الداخل اللبناني، ليطال المشهد الإقليمي العام.
في إطار هذا المشهد العام، يتراجع منسوب التصعيد –بما في ذلك الكلامي– من جانب الولايات المتحدة تجاه إيران، لا بل أن الكثير من المحللين الأميركيين، باتوا يتعاملون حالياً مع التهديدات الأخيرة بتقويض الاتفاق النووي الإيراني، باعتباره مجرّد زوبعة في فنجان التصريحات الشعبوية لدونالد ترامب.
هذا الواقع، بات يمكن تلمّسه سياسياً من البوابة اللبنانية، وميدانياً من البوابة السورية، فكل الكلام الأميركي على «الخطر الإيراني» في سوريا، تبدّد بمجرّد توصل دونالد ترامب وفلاديمير بوتين إلى تفاهمات بشأن الجبهة الجنوبية، التي أُدخلت ضمن مناطق خفض التصعيد، بما يطمئن الأميركيين بشأن أمن حليفتهم إسرائيل، حتى بات كثيرون يتساءلون حول ما إذا كان سقف الأهداف الأميركية في الحرب السورية قد تراجع فعلاً إلى هذا المستوى من المطالب.
ومن الناحية العملية، فإنّ ثمة ما يدفع الى الاعتقاد بأن كافة الأطراف الإقليمية والدولية راغبة في إنجاز تسوية معيّنة، أو على الأقل فتح الباب أمام عصر التسويات، طالما أن لا ملامح واضحة لتلك التسوية المفترضة، سوى الإطار العام الذي تسير على أساسه التحالفات الإقليمية والدولية.
محوران شمالي وجنوبي
ومع أن التحالفات الجديدة في الشرق الأوسط، ما زالت في مرحلتها الجنينية، إلا أن من الممكن تحديد طبيعتها، مع هامش قليل من الخطأ، فالمنطقة تتجه أكثر فأكثر نحو تقاسم نفوذ إقليمي ودولي بين محورين: شمالي وجنوبي.
ولعل رصد مسار التحوّلات الشرق أوسطية –في نقاطها المتعددة– تظهر اليوم أن المحور الشمالي يقترب من أن يتخذ شكله النهائي، على خط يمتد من طهران شرقاً، مروراً بالعراق وسوريا وسطاً، وصولاً إلى لبنان غرباً، في حين تمثل روسيا حاضنته الدولية.
وأما المحور الجنوبي، فمساره أكثر وضوحاً، لأسباب سياسية باتت معروفة، ويمتد من السعودية، وما يدور في فلكها من دول خليجية، ويصل إلى إسرائيل، في حين تمثل الولايات المتحدة بدورها حاضنته الدولية.
وضمن هذين المحورين لا شك في أن ثمة أطرافاً لا يزال وضعها غير محسوم، وفي طليعتها قطر، التي أظهرت الأزمة الخليجية الأخيرة أن ثمة دوراً جيوسياسياً يراد لها أن تقوم به، وهو أن تظل «شوكة» في خاصرة السعودية، ولبنان الذي يسعى البعض الآخر إلى إبقائه “شوكة” في خاصرة المحورالمقابل.
وربما تكون مصر والأردن الدولتان الأكثر قدرة على التكيف مع الشكل الجديد للتحالفات، خصوصاً أن القاهرة وعمّان أظهرتا، خلال الآونة الأخيرة، رغبة في لعب دور الوسيط بين المحورين المذكورين، عبر الحفاظ على هامش من الاستقلالية عنهما، مع العلم بأن هاتين الدولتين قادرتان وحدهما، حتى الآن، على القيام بدور الوسيط الإقليمي، بالنظر إلى ارتباطهما مع إسرائيل بمعاهدات سلام.
ومع ذلك، فإن الولادة القيصرية للنظام الإقليمي الجديد المفترض، تبقى مرتبطة بالموقف التركي، فحسم رجب طيب أردوغان موقعه بين الأميركيين والروس وحده الكفيل بترسيخ التفاهمات الجديدة المفترضة، فإمّا أن يكون مع المحور الشمالي، ضمن تفاهمات تدفعه في نهاية المطاف إمّا إلى التخلي عن الورقة القطرية، وإمّا أن يكون ضمن المحور الغربي، وعندها تكون الخريطة أكثر وضوحاً –فتعود قطر في هذه الحالة إلى الحظيرة الخليجية– وإمّا الى مزاحمة الدور المصري – الاردني كوسيط إقليمي.
Leave a Reply