نبيل هيثم
ثمة ترابط مثير للاهتمام، ولا يمكن وضعه فـي سياق الصدفة، بين الهجمات الارهابية غير المسبوقة التي تعرضت لها القوات المسلحة المصرية فـي سيناء الاسبوع الماضي، والتي اسفرت عن مقتل 31 شخصاً، معظمهم من العسكريين، وبين التطورات الميدانية التي شهدتها جبهات القتال المشتعلة من ديالى فـي العراق، مروراً بعين العرب (كوباني) فـي سوريا، وصولاً الى الجولان والجنوب اللبناني.
وعلى مدار اسبوعين تكبّدت الجماعات التكفـيرية خسائر ميدانية فادحة، تمثلت بداية فـي تحرير مدينة كوباني على ايدي مقاتلي «وحدات حماية الشعب» و«وحدات حماية المرأة»، التي اطلقت هجوماً مضاداً افضى الى «تنظيف» اكثر من ثلاثين قرية كان تنظيم «داعش» قد سيطر عليها خلال تقدّمه السريع فـي العراق وسوريا.
و فـي هذا الوقت، كان الجيش العراقي و«الحشد الشعبي»، وبتنسيق مع ايران، يحققان انجازاً نوعياً فـي المعركة ضد «داعش»، تمثل فـي طرد التكفـيريين من ديالى، لتصبح بذلك اول محافظة عراقية تتحرر من قبضة التنظيم المتشدد، من بين اربع محافظات سبق ان سيطر عليها.
وبين الحدثين العراقي والسوري (الكردي)، كانت المقاومة اللبنانية تفرض معادلتها الجديدة فـي الميدان، من خلال ردّها على جريمة اغتيال المقاومين الستة، بعملية نوعية فـي مزارع شبعا، مثلت رسالة مزدوجة الى الاسرائيليين والجماعات التك فـيرينة فـي آن واحد، كما تبدّى فـي خطاب الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
وبالرغم من الجدل القائم حالياً حول حجم الهزيمة/الانتكاسة التي مني بها التكفـيريون، والذي بدأ يظهر خلافاً اميركياً – عراقياً، تمثل فـي تفاوت التقديرات بشأن تقهقر تنظيم «الدولة الاسلامية»، بين تقرير البنتاغون، الذي جزم بأن «داعش» لم يخسر جغرا فـياً اكثر من واحد فـي المئة، وتأكيدات المسؤولين السياسيين والعسكريين العراقيين بأن النسبة تقرب الأربعين فـي المئة، وتحذيرهم من مساع اميركية للتبخيس فـي انجازات الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» تمهيداً لتدخل بري، الا ان نظرة سريعة على الخريطة الميدانية تظهر ان التقدم العسكري الجارف للتكفـيريين قد توقف، فـي ما يعد نقطة تحوّل فـي مسار الصراع.
ومع ذلك، فإن التجربة التاريخية مع الجماعات التكفـيرية، ذات الطابع الزئبقي، تجعل «داعش» قادراً على الاستمرار فـي تشكيل خطر داهم على المنطقة العربية، برغم الانتكاسات الميدانية هنا او هناك، وهو من دون شك قادر على استخدام اسلحة جديدة فـي جعبته، ومن بينها تفجير الاوضاع فـي مناطق اخرى غير العراق وسوريا، لتخفـيف الضغط عن جبهاته الاساسية، او على اقل تقدير لرفع معنويات مقاتليه، وكسب نقاط جديدة فـي الحرب النفسية التي لا تقل اهمية بالنسبة اليه عن الحرب العسكرية الصرفة.
ويبدو ان الهجمات غير المسبوقة التي شنها التفكيريون فـي مصر، والتي حملت توقيع «ولاية سيناء» فـي «الدولة الاسلامية»، تأتي فـي السياق المشار اليه اعلاه.
وبالرغم من ان سيناء باتت نقطة استهداف للجماعات التفكيرية منذ هجمات شرم الشيخ ونويبع وطابا فـي العامين 2004 و2005، وبالرغم من نمو تلك الجماعات فـي هذه المنطقة الاستراتيجة قد سجل مستوى تصاعدياً منذ «ثورة 25 يناير»، الا ان ثمة عاملين يدفعان الى القول ان شبه الجزيرة المصرية صارت هدفاً لتنظيم «داعش»، بما ينذر بتطورات خطيرة.
اول هذين العاملين ان الهجمات الاخيرة هي الاولى التي ينفذها تنظيم «انصار بيت المقدس» منذ اعلانه البيعة لـ«داعش» فـي تشرين الثاني الماضي، وتغيير اسمه الى «ولاية سيناء» استجابة لدعوة «الخليفة» ابو بكر البغدادي فـي تسجيله الصوتي الذي اعلن فـيه تمدد «الدولة الاسلامية» الى مصر وتونس وليبيا والجزائر وشبه الجزيرة العربية.
اما العامل الثاني، فـيتمثل فـي شكل تلك الهجمات جاءت غير مسبوقة سواء فـي حجمها او اسلوبها. ومعروف ان الجماعات التك فـيرية فـي سيناء ظلت تعمل لسنوات وفق اسلوب تنظيم «القاعدة» فـي تنفـيذ العمليات الارهابية (تفجير عبوات او هجمات انتحارية)، لكنها اظهرت مؤخراً انتقالها الى اسلوب «داعش» المتمثل فـي تنفـيذ هجمات قتالية، تشمل استخدام البنادق الآلية وصواريخ الـ«ار بي جي» وقذائف الهاون.
ولعل انتقال الجماعات التكفـيرية فـي سيناء من الولاء لـ«القاعدة» إلى الولاء لـ«داعش» يحمل له دلالات خطيرة، أولها أن هذه التيارات أصبح لديها ثقة أكبر فـي تحقيق انتصارات ميدانية، وثانيها انها انتقلت من خطاب «القاعدة» بالاستهدافات المتفرقة والمتباعدة، إلى الضربات المركزة والمتوقعة، وبخطاب انتصاري فـي سياق «الدولة الاسلامية المركزية».
علاوة على ذلك، فإن ثمة ما هو اخطر، ويمكن قراءته فـي البيان التفصيلي الذي اصدرته «ولاية سيناء» بشأن الهجمات الاخيرة، الذي كشف عن استخدام ما يقرب من 10 اطنان من المتفجرات، علاوة على اسلحة اخرى بينها قذائف الهاون، وهي قدرات لا يمكن ان تقوم بها جماعة مثل «انصار بيت المقدس» دون تدخل مباشر من «جهاديين» اكثر خبرة فـي هذه الشؤون، وتحديداً تنظيم «داعش»، علاوة على تمويل هذا النوع من المتفجرات، بما يشمل تكلفة نقلها الى مكان الاعداد والتنفـيذ، ما يعكس وجود فائض مالي كبير لدى «ولاية سيناء» من المفترض ان يكون مصدره التنظيم الام فـي سوريا والعراق. نظراً لكلفتها الباهظة، والتي ترتفع بحسب زيادة وزن التفجير، ما يعني ان ثمة تمويل مباشرة
كما كان لافتاً فـي بيان تنظيم «ولاية سيناء»، ذكر عدد المسلّحين الذين شاركوا فـي الهجمات، والذين وصل عددهم إلى 100 مقاتل. وهي المرة الأولى التي يُعلن فـيها التنظيم عن عدد المشاركين فـي أي عملية له بشكل صريح، علماً أن أكبر عدد من المسلّحين المشاركين فـي عملية واحدة، كان فـي هجوم على دورية عسكرية للجيش الإسرائيلي، وشارك فـيه حوالي 15 عنصراً.
ويبرز فـي سياق إعداد الكميات الهائلة من المتفجرات، والاحترا فـية فـي استخدام قذائف «الهاون» لاصابة المقرات العسكرية بشكل مباشر ودقيق، كما رشح من مصادر امنية وميدانية، وجود مكان آمن فـي سيناء يتمكن من خلاله خبراء المتفجرات من إتمام عملهم، ومراكز تدريب للمسلحين على القتال المباشر والقصف المدفعي.
ويضاف الى ذلك، اسلوب توثيق العمليات الارهابية على طريقة تنظيم «داعش» ان لجهة تصوير الهجمات وسرعة التواصل عبر الإنترنت عبر «مجموعة إنتاج إعلامي» تطلق على نفسها اسم «مجموعة فتى المعارك».
هكذا يبدو ان الجيش المصري بات يواجه أخطر أفرع تنظيم «الدولة الإسلامية» فـي شبه جزيرة سيناء، بما ينطوي على ذلك من مخاطر على الامن القومي المصري، الذي ظل حتى الآن منأى عن المصير الكارثي الذي واجهته سوريا والعراق.
ولعل ما حدث فـي سيناء مؤخراً يعيد التذكير بما كان يحدث فـي العراق فـي منتصف العقد الماضي، لجهة نمو الحركات التك فـيرية بشكل سريع وسط بيئة حاضنة للعشائر البدوية، ولكن ما يثير القلق اكثر ان الحديث هذه المرة يدور حول تنظيم مرتبط بشكل وثيق بتنظيم «داعش» ذي البنية التنظيمية الصارمة، والمنهج الواضح الذي يسير عليه، والذي اثبت قدرة على استغلال الانقسامات داخل المجتمع، وحالة الغضب فـي صفوف مناطق الاطراف ضد الدولة المركزية لحشد الناس حوله.
ومعروف ان سيناء شهدت تاريخًا طويلًا من المظالم المحلية، سواء على المستويين الاقتصادي والامني، وهو ما يوفر ارضاً خصبة لتنظيم مثل «داعش» ليفرض نفسه رقماً صعباً فـي فـي الجزء الشمالي من سيناء.
ولعل الهجمات الاخيرة قد فاقمت المخاوف، خصوصاً بعدما اظهرت ان العلاقة بين الجماعات التفكيرية فـي سيناء وبين تنظيم «الدولة الإسلامية» قد تخطى حدود التلاقي الفكري، ما يجعل سيناء مركزا جديداً فـي خريطة «الدولة الإسلامية»، ويجعل مصر وشمال افريقيا محط اهتمام أوسع من قبل التنظيم المتشدد.
«أنصار بيت المقدس» أو «ولاية سيناء»
تنظيم «أنصار بيت المقدس»، لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات، وقد ظهر هذا الاسم للمرة الأولى عقب «ثورة 25 يناير» حين تناقلت الأنباء خبر العملية الأولى لتفجير خط الغاز الذي يربط مصر بإسرائيل والأردن، والتي تكررت بشكل مثير للانتباه طوال أشهر لاحقة.
يومها كانت عمليات التفجير تثير احتفاءً ملحوظاً وشماتة ازاء المجلس العسكري بسبب الحرج الدولي البالغ الذي أصابه جراءها. لكن اللعبة والنكات سرعان ما تحولا إلى تساؤلات عندما خفت وتيرة التفجيرات عدا تفجير وحيد عقب وصول محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية.
سلاح الجماعة بدا موجهاً إلى إسرائيل أكثر منه إلى صدور المصريين، عندما قصفت منتجع إيلات السياحي فـي جنوب فلسطين المحتلة بصورايخ «غراد» فـي شهر آب العام 2012، من دون وقوع أي أضرار، قبل أن تنفذ عملية إعدام من دون محاكمة لرجل بدوي قالت إنه أرشد إلى أحد أعضائها وتعاون مع الموساد الإسرائيلي وذلك فـي شهر أيلول من العام ذاته.
كانت البداية فـي أيلول العام 2013، عندما فجّر ضابط مفصول من الجيش المصري عربة مفخخة يقودها فـي موكب وزير الداخلية محمد إبراهيم، بعد عمليات رصد طويلة لمواعيد خروجه وعودته إلى منزله فـي ضاحية مدينة نصر شرق القاهرة.
و فـي تشرين الثاني، فجّر شاب عربة يقودها كانت محملة بأنابيب الغاز المنزلي فـي مديرية أمن جنوب سيناء مخلفاً وراءه خمسة قتلى ونحو 50 جريحاً، وبثت الجماعة تسجيل فـيديو للشاب. قبل يومين، وبالطريقة ذاتها، تبث زميلتها «كتائب الفرقان» عملياتها المسلحة.
وعلى هذا المنوال، بدأ تحرك الجماعة ينشط فـي سيناء، حتى أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس» انضمامها إلى تنظيم «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» «داعش» ومبايعة زعيمها أبو بكر البغدادي، فـي تشرين الثاني الماضي.
وفور ذلك، غيّرت الجماعة اسمها على صفحتها على موقع «تويتر» إلى «ولاية سيناء»، فور إعلان البغدادي، قبوله بيعة جماعات فـي دول عدة.
وقالت «أنصار بيت المقدس»، عقب انتهاء بثّ تسجيل نسب للبغدادي يوم 13 تشرين الثاني العام 2014، فـي بيان نشرته على صفحتها، إنه «استجابة لأمر أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي أنصار بيت المقدس تغير حسابها على تويتر إلى ولاية سيناء»، وعليها علم أسود كتب عليه «لا إله إلا الله»، وكل ذلك على خلفـية مظللة تُبيّن خريطة شبه جزيرة سيناء وجزء من الشمال المصري.
من مصر إلى ليبيا
تعكس التقارير الصادرة عن «داعش» خلال الفترة الماضية رغبة التنظيم المتشدد فـي فتح جبهات جديدة محورها مصر، ما يعني ان ثمة استراتيجية فـي التمدد الى ابعد من سوريا والعراق.
فـي تقرير حمل عنوان «ليبيا البوابة الاستراتيجية للدولة الإسلامية»، وتداولته مواقع جهادية قبل هجوم سيناء بأيام، يقول أبو ارحيم الليبي، وهو أحد كوادر التكفـيريين فـي ليبيا، ان «المجاهدين لبوا نداء الحق، واستجابوا لأمر الله ورسوله فـي لزوم الجماعة، وعدم التفرق، فقاموا بمبايعة أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الشيخ أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي… وتم إعلان التمدد المبارك لدولة الخلافة إلى ليبيا».
ويضيف ابو ارحيم ان «الله هيأ لهذا البلد موقعاً استراتيجياً وإمكانيات ضخمة يمكن الاستفادة منها بشكل كبير لو تمَّ استغلالها بشكل جيد». ويرى انه من «المؤسف أنّ بعض الأنصار قد لا يدركون حجم الساحة الليبية، والانتشار المهول لأنواع السلاح المختلفة، والبعد الجغرا فـي والمكاني المهم»، مشيراً فـي هذا السياق الى ان «ليبيا تطل على بحر وصحراء وجبال، وعلى ست دول (مصر، السودان، تشاد، النيجر، الجزائر، تونس)، فضلاً عن أنها ذات ساحل طويل ومطل على دول الجنوب الصليبي، والتي يمكن الوصول لها بسهولة عن طريق الزوراق البسيطة».
ويشير ابو ارحيم الى وفرة السلاح الموجود فـي ليبيا، قائلاً «إذا حاولت ان أصف لكم حجمه، يكفـيني القول ان تسريب مجموعة من سلاح ليبيا إلى مالي أمكن الحركات الجهادية هناك فـي مدة قصيرة جداً أن تسيطر على أكثر من ثلثي دولة مالي، وهذا مجرد سلاح مهرب، فكيف بباقي السلاح؟ ولا ننسى أن مالي لا توجد لها حدود مع ليبيا، فكيف إذا كانت لها حدود؟».
ويضيف ان العقيد الراحل معمّر القذا فـي «سخَّر كل عائدات النفط الليبي، التي تتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسة وأربعين مليار دولار سنوياً، لشراء السلاح والعتاد الحربي وتخزينه».
ويرى ابو ارحيم ان «الموقع الاستراتيجي لليبيا يُمكنها من تخفـيف الضغط على مناطق دولة الخلافة فـي العراق والشام، حيث تتميز ليبيا بمساحة كبيرة جداً، وبصحراء شاسعة لا يمكن مراقبتها، وبجبال محصنة تجعل الطائرات عديمة الجدوى».
ويوضح ان «ليبيا هي مفتاح مصر، وهي مفتاح تونس والسودان ومالي والجزائر والنيجر، وهي نقطة ارتكاز للتمدد نحو أفريقيا والمغرب الإسلامي».
ويختم ابو ارحيم تقريره بالقول: «يجب أن يتحرك المجاهدون… ويصلحوا بين الليبيين ويوجهوا هذه الطاقات نحو العدو الحقيقي وهم الطغاة وأسيادهم الصليبيون، وإذا ما حدث ذلك، وسيحدث بإذن الله، فلن تقف قوة أمام المجاهدين، ولن أقول تخفـيف الضغط على أرض الخلافة فـي الشام، بل اتصال أراضي الخلافة فـي الشام والعراق والحجاز مع ليبيا والمغرب الإسلامي ودحر كل الأنظمة والطواغيت».
Leave a Reply