الشيخ باقر برّي
حراكٌ شعبيٌّ غير مسبوق يشهده لبنان هذه الأيّام. مظاهرات حدثت، وتحدث. تحرُّك شعبي عارم بعد حالةٍ من الاستياء والتذمُّر، نتيجةً لفشل الدولة ولسياسات التفقير والهيمنة والاستحواذ التي يُمارسها السياسيون الذين يُؤثرون مصالحهم ويسعون إلى تقوية نفوذ أحزابهم وكياناتهم في الدولة على حساب مصالح الشعب، مُغرقينَ المجتمع بالفساد بكل أشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
والشعب إذْ يتحرَّك حاملاً مطالبَ شرعيةً، فإنما هي مطالب واجبة التنفيذ، وليست مِنَّةً أو فضلاً من أحد.
حاجزان كبيران ومستعصيان أسقطهما الحراك الشعبي حتى الآن: الحاجز النفسي والحاجز الطائفي المناطقي. إضافة إلى نجاحه الواضح في إلغاء قداسة المسؤول وحالة الهيمنة والاستحواذ على السلطة دون رقيب أو حسيب.
ثمَّة تحوُّل كبير في الوعي حدث في السنوات الأخيرة في لبنان قاد إلى هذا الانفجار الشعبي، فجيل لبنان الجديد هو جيل الانفتاح على العالم وهو جيل الإنترنت والثورة المعلوماتية، وهذا الجيل قد فتح أعينه على الديمقراطية، وشاهد الدول المتقدّمة تنعم بالراحة والأمان والرفاهية في ظلّها، وراقب كيف تنتظم حياتها السياسية بالانتخابات الحرة وآليات المشاركة والمراقبة والمحاسبة الحقيقية.
تاريخياً، قبل الحرب الأهلية في لبنان، كان الشعب يطمح إلى الخلاص من الحرمان، ومن الإقطاع والزعيم الإقطاعي، ليأتيَ بالقائد الوطني الذي يُحقّق العدالة والمساواة ويقود عملية التغيير في نظام جديد يخدم طوائف لبنان كافَّةً.
الجيل الجديد يُعيد إنتاج هذا الطموح في الساحات، بعدما عجز الجيل القديم عن تحقيقه في أروقة السياسة، ولكنه جيلٌ يملك وعياً مميّزاً، ويريد إيصال ممثّليه الحقيقيين إلى الدولة. لا يريد بعد الآن مسؤولين وسياسيين وطنيين مدى الحياة، يريد أن يراقب نشاط هؤلاء، ويحكم لهم أو يحكم عليهم عبر صناديق الاقتراع، يريد من الأحزاب والزعماء والسياسيين برامج عمل وليس مجرّد شعارات وخدمات زفت ومحسوبيات. يريد دولة المواطن بغضّ النظر عن الدين والمذهب، ويريد أن يكون له الحقّ في المراقبة والمحاسبة، يريد تسديد ضربة قاصمة لظهر الفساد داخل الدولة. هذا الفساد الذي كان سُلَّمَ عبورٍ لغير الأكفاء إلى السلطة، وباباً أوحدَ لتجارة الاحتكار التي كادت أن تأتيَ على اقتصاد البلاد برمَّته (دواء، نفط، محروقات، سلع أساسية…). خصوصاً في بلدٍ مثل لبنان تمَّ إرهاقه باقتصادٍ ريعيّ غير إنتاجيّ.
لذلك نقول إنَّ الحراك اليوم هو حركة تقويم شعبية، وهو حلمٌ بتغيير جذري يحوّل النظام السياسي اللبناني القائم على أساس اتفاق الطائف إلى نظام متقدّم يقرُّ الآليات الديمقراطية الحديثة، ويحقّق دولة القانون والحقوق المتساوية للمواطنين.
ولا يجوز أن يتحوَّل هذا الحراك إلى حركة ضغط لاستبدال فاشلين بآخرين أفشل منهم، أو حركة تعويم لبعض الفاسدين الذين يحاولون ركوب موجة الحراك.
إنه حراك لتقويم المسار، لا لتعويم مَنْ يحاول دسّ السمّ في الدسم، من خلال دأبه على حرف البوصلة المطلبية صوبَ اتجاه سياسي مشبوه يأخذ إلى الفراغ والخراب.
إنَّ حماية الحراك الشعبي من هذا الانحراف، ومن التدخُّلات الدولية والإقليمية التي تؤثّر سلباً، ضرورةٌ كبرى تقع على عاتق المثقَّفين والناشطين في الحيّز العام. فلسنا بحاجة إلّا إلى المزيد من الوعي واليقظة والحذر حتى نُحقِّق المطالب ونحفظ الحقوق ونحمي كرامة المواطن وحقّه في الحياة الكريمة، لتعود الدولة في خدمة الشعب بدل أن يظلَّ الشعب في خدمة الزعماء والفاسدين.
Leave a Reply