نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لم يعد ممكناً حصر ما يجري فـي لبنان بأزمة النفايات التي كانت المحرّك الاول لنزول المواطنين الى الشوارع، فالحراك المدني، الذي انطلق قبل اسابيع بشكل متواضع تحوّل سريعاً الى انتفاضة شعبية، ما زالت مستمرة، وصارت تحمل مطالب اعلى سقفاً، عنوانها اسقاط النظام الطائفـي، وما افرزه من فساد على المستويين السياسي والاداري منذ انتهاء الحرب الاهلية قبل 25 عاماً، وباتت تستهدف كل من أفسد البلاد، وهو ما يفسّر العنف الشديد الذي قوبلت به تظاهرات الايام القليلة الماضية.
هي انتفاضة شعبية ضد طبقة سياسية لطالما اشتكى اللبنانيون من فسادها، ولكنهم تأخروا كثيراً عن التحرك ضدها.
ويمكن القول ان السلبية التي تعامل معها المواطنون اللبنانيون، طوال العقود الثلاثة الماضية، ازاء معظم التحركات المطلبية، وخصوصاً النقابية، قد اسهمت فـي تمكين شوكة الطبقة الحاكمة، وهي هجين من اثرياء الحرب وقادة ميليشياتها، ووفرت لهم فرصة التمادي فـي الفساد السياسي والاداري، دون حسيب او رقيب.
واذا كانت تلك الطبقة الحاكمة قد نجحت فـي تجاوز الكثير من الازمات السياسية والتحركات الشعبية، التي كان اكبرها حجماً تظاهرات هيئة التنسيق النقابية ضد مشروع سلسلة الرتب والرواتب قبل اكثر من عام، فإن ازمة النفايات الاخيرة اوصلت الامور الى نقطة مفصلية، تقاطعت من خلالها ازمات اخرى من داخل الطبقة السياسية الحاكمة نفسها، بدا معها ان «ترياق» التفريق الطائفـي، الذي طالما استخدمه رموز السلطة الحاكمة، لشرذمة صفوف اللبنانيين لم يعد ناجعاً.
وبرغم تعدد الازمات الاجتماعية، التي اسهم فساد الطبقة الحاكمة فـي تفاقمها، قد مثلت قوة ضغط هائلة على المواطنين اللبنانيين، الا ان ازمة النفايات اتت لتعكس قذارة الحياة السياسية فـي هذا البلد. فهذه الازمة المستجدة فاحت منها روائح الفساد التي لم يسلم اي من رموز الحكم، خصوصاً ان تعطيل هذا الملف بدا مرتبطاً برغبة هذا الزعيم المحلي او ذاك فـي اقتطاع حصة من كعكة الصفقات المشبوهة، والتي تدر على اصحابها بملايين الدولارات. كثيرة هي ملفات الفساد التي انخرط بها اثرياء الحرب وقادة ميليشياتها الذين حكموا لبنان منذ وصول الملياردير الراحل رفـيق الحريري الى رئاسة الحكومة اللبنانية، عقب ما سمّي بـ«انتفاضة الاطارات» المشتعلة فـي ايار العام 1992.
وبرغم مضي ربع عقد على انتهاء الحرب الاهلية اللبنانية، ما زال المواطنون يفتقدون الى الكثير من الخدمات الحكومية بشكل طبيعي، فـيما ادت الصراعات المعهودة بين القوى السياسية الى اسقاط ورقة التوت عن ديموقراطية شكلية، اساسها التوافق بين امراء الطوائف، الذين تنطبق عليهم مقولة «خلافهم نفاق… ووفاقهم شقاق»، وهو ما تبدّى فـي فشل الحكومة.
ولكن ازمة النفايات اتت لتعكس الوجه الاكثر قذارة لفساد الدولة اللبنانية المتهالكة. وبصرف النظر عن ان هذه الازمة الجديدة قد مثلت الشرارة لانطلاق الحراك الشعبي الحالي، بعد استهتار الطبقة الحاكمة بصحة المواطنين وحقهم فـي بيئة نظيفة، فإنّ تتبع مسار هذا الملف يقدّم صورة واضحة عن الطريقة التي يدير بها رموز الفساد لبنان، منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي.
فـي كتابه الشهير «الايادي السود» (1999)، كتب النائب السابق نجاح واكيم عن ازمة النفايات قائلاً: فـي تلك الفترة، وضع محافظ بيروت نايف المعلوف خطة لتنظيف العاصمة من جبال النفايات وتنظيم عملية تجميع النفايات المنزلية، بكلفة سنوية قيمتها 1.5 مليون دولار، ورفع هذه الخطة إلى رئيس الحكومة رفـيق الحريري للموافقة عليها، إلا أن الاخير اهملها لأنه كان قد أعد مشروعه الخاص لهذه المهمة، مع شريكه ميسرة سكر، الذي أسس شركة «سوكلين» لهذا الغرض.
وبعد مرور وقت قصير، فوجئ المعلوف بتوقيع عقدٍ بين مجلس الانماء والاعمار وهذه الشركة بقيمة أربعة ملايين دولار، أي ما يوازي ثلاثة أضعاف الكلفة التي وضعها المعلوف، والغريب فـي العقد هو أن البلدية هي التي سوف تدفع قيمة التلزيم دون أن يكون لها حق مراقبة أعمال هذه الشركة؛ كما منح العقد شركة «سوكلين» حق استخدام موظفـي وعمال البلدية كمياومين لديها على أن تتحمل البلدية تعويضات هؤلاء، والمنح المدرسية والمساعدات المرضية، كما أجاز لها استخدام آليات ومستودعات البلدية لقاء تعويض يبلغ مليارين ومائتي مليون ليرة لبنانية؛ لكن «سوكلين» لم تسدد هذه التعويضات، ما دفع المحافظ المعلوف إلى توجيه ثلاث رسائل إنذار للشركة بوجوب الدفع، فكان رد «سوكلين» أن العقد الذي وقعته، قد أبرم مع مجلس الانماء والاعمار، ولا صلاحية للمحافظ أو للمجلس البلدي بمراجعتها فـي هذا الشأن.
وأثارت هذه المشكلة تجاذبات واعتراضات عديدة، مما اضطر شركة «سوكلين» إلى دفع أقل من نصف المبلغ أي مليار ليرة لبنانية، هذه الحادثة وغيرها كانت من الاسباب التي أدت إلى إزاحة المعلوف من موقعه، والمجيء بمحافظ آخر.
وهكذا أصبحت شركة «سوكلين»، المتعهد الرسمي لرفع النفايات من العاصمة، وأصبح العقد الموقع معها من قبل مجلس الانماء والاعمار، يجدد تلقائياً عند انتهاء كل سنة، مع فارق أن قيمة العقد ارتفعت فـي السنة الثانية مباشرة من أربعة ملايين دولار إلى 23 مليون دولار، وفـي السنة الثالثة من 23 مليون إلى 45 مليون دولار، مع اتساع نطاق عملها ليشمل حدود بيروت الكبرى أمنياً، علماً أن رئيس لجنة الادارة والعدل البرلمانية السابق المحامي أوغست باخوس، أكد خلال مقابلة تلفزيونية أن تكلفة رفع طن النفايات الواحد لا تتعدى ال 5و 4 دولارات فـيما التزمت سوكلين الطن ب 45 دولاراً.
تلك الفضيحة مرّت طوال العقدين الماضيين، وما تلاها من تجاوزات فـي ملف النفايات، من دون ان يحاسب عليها احد، ولعلّ ملف النفايات وحده، بالوقاحة التي يعالج بها من قبل الطبقة الحاكمة، يشكل عينة من الطريقة التي ادير بها لبنان منذ الحقبة الحريرية وحتى يومنا هذا من قبل تحالف امراء الطوائف وقادة ميليشيات الحرب… وهو ما يمكن ان يقاس عليه لرصد كافة اوجد الفساد على المستويين السياسي والاداري.
ولعل هذا الاستهتار بصحة المواطن وحقه فـي بيئة نظيفة هو ما دفع ناشطو المجتمع المدني الى التحرك فـي اطار حملات كثيرة، اهمها «طلعت ريحتكم»، التي استحوذت على تعاطف شعبي، تبدى فـي استجابة الآلاف لدعوات التظاهر، يوم السبت الماضي.
وهكذا، فإنّ هذا الحراك الشعبي العفوي، والمتجرّد من الانقسامات العمودية الحادة فـي المجتمع اللبناني، سواء على المستوى الطائفـي، او على مستوى الاصطفاف السياسي بين معسكري 8 و14 آذار، قد اربك السلطة الحاكمة، وهو ما يفسر بشكل او بآخر الوحشية التي تعاملت بها قوى الامن الداخلي مع المتظاهرين، والتي وصلت الى حد الاستخدام المفرط، وغير المتكافئ، لادوات القمع، من امطار المحتجين بقنابل الغاز المسيل للدموع، وصولاً الى استخدام الرصاص المطاطي والحي لتفريقهم، ومن ثم تعمد او تسهيل مهمة العناصر غير المنضبطة لحرف التظاهرات عن مسارها السلمي.
اليوم، يبدو ان السلطة الحاكمة فـي لبنان تحاول تكرار تجارب سابقاتها فـي الدول العربية. ولا بد هنا من التذكير الى ان معظم التحركات التي شهدتها مرحلة «الربيع العربي» قد بدأت على شكل تحركات مطلبية، سرعان ما اتخذت مساراً مختلفاً من حيث سقف المطالب، وما هتاف «الشعب يريد اسقاط النظام» الذي صدحت به اصوات المتظاهرين فـي ساحة رياض الصلح سوى تعبير عن كيفية إمكان تحرك شعبي ان يتحول من مجرّد احتجاج مطلبي الى اهداف سقفها اسقاط النظام، حين تمتنع الطبقة السياسية عن الاستجابة لاصوات شعبها… وهو ما لم تفهمه بعد الطبقة الحاكمة فـي لبنان.
«هيومن رايتس ووتش» توثق أحداث العنف
دعت منظمة «هيومن رايتس ووتش» السلطات اللبنانية الى اتخاذ تدابير فورية لضمان عدم تكرار العنف ضد المتظاهرين فـي وسط بيروت، ومحاسبة مرتكبي الاعتداءات العنفية. واشارت المنظمة الحقوقية الى استخدام أفراد الأمن اللبناني الطلقات المطاطية وعبوات الغاز المسيل للدموع ومدافع الماء وكعوب البنادق والهراوات للسيطرة على متظاهرين يومي 22 و23 آب فـي وسط بيروت، واطلقت الذخيرة الحية فـي الهواء لتفريق المتظاهرين.
واوضحت انه فـي 23 آب، كلف النائب العام التمييزي سمير حمود مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، المختص بموجب القانون اللبناني بالجرائم المرتكبة من قبل قوى الأمن، بالتحقيق فـي أحداث العنف.
واشارت المنظمة الحقوقية الى انه ينبغي على السلطات اللبنانية ضمان استقلال التحقيق فـي العنف من جانب قوى الأمن، وفعاليته وشفافـيته، ومحاسبة أفراد الأمن المسؤولين عن استخدام القوة غير الشرعي.
وراقب طاقم «هيومن رايتس ووتش» جزءاً من المظاهرات يومي 22 و23 آب، وقابل 12 شاهداً بينهم 6 من المتظاهرين الجرحى.
وفـي الآتي مقتطفات من التقرير:
– تدفق على ساحة رياض الصلح ما يقدر بـ 5000 متظاهر يوم 22 آب، بعد أن استقطبهم عنف قوى الأمن مع متظاهرين سلميين فـي وقت سابق من ذلك الأسبوع، للاحتجاج على الفساد السياسي والاقتصادي وحالة الخدمات العامة فـي لبنان. كانت المظاهرات التي نظمتها حملة «طلعت ريحتكم» وغيرها من الجماعات المطالبة بحلول مستدامة لأزمة النفايات التي بدأت فـي تموز.
– بدأت تظاهرة 22 آب سلمياً الساعة 6 مساءً، بمشاركة أعداد كبيرة من العائلات. كانت قوى الأمن قد نصبت المتاريس لمنع المتظاهرين من الوصول إلى مقر الحكومة بالسراي الكبير، والبرلمان فـي ساحة النجمة. نحو السابعة مساءً تزايد التوتر حين حاول المتظاهرون الاقتراب من المبنيين. وقال شهود إن بعض المتظاهرين ألقوا بالألعاب النارية وقوارير المياه من فوق حواجز الأمن قرب السراي. وحاولت مجموعة أخرى من المتظاهرين بلوغ ساحة النجمة، حيث يقع البرلمان، لكنهم جوبهوا بأفراد من الجيش اللبناني كانوا متمركزين قريباً، وبوحدة من قوى الأمن الداخلي مخصصة لحماية البرلمان. ثم تصاعدت المواجهة سريعاً مع أفراد قوى الأمن إذ بدوا وكأنهم يطلقون الذخيرة الحية فـي الهواء لتفريق المتظاهرين، الذين ردوا بإلقاء قوارير المياه والعصي عليهم. وقام فريق «هيومن رايتس ووتش» لاحقاً بجمع طلقات خراطيش طلقات من عيار 5,56 ملم ـ التي تستخدم لبنادق «إم16» الخاصة بقوى الأمن اللبنانية، من الموقع.
– اندلع العنف أيضاً قرب السراي الكبير حيث استخدم أفراد من قوة مكافحة الشغب وغيرها من وحدات قوى الأمن الداخلي الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه والطلقات المطاطية وما يبدو أنه طلقات حية فـي الهواء لإجلاء المتظاهرين بالقوة عن ساحة رياض الصلح.
– سجلت الكاميرات تلك الأحداث من جانب قنوات تلفزيونية تنقل المظاهرات عن طريق البث المباشر. واستمرت الاشتباكات بين قوى الأمن ومجموعات من المتظاهرين الذين يلقون الحجارة والعصي حتى ساعة متأخرة من الليل، مع استخدام كثيف لعبوات الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية وخراطيم المياه.
– فـي 23 أ آب قامت مظاهرات جديدة فـي وسط بيروت، مع مطالبة العديد من المتظاهرين باستقالة الحكومة والمحاسبة على العنف المرتكب بحق المتظاهرين. ألقت مجموعات من المتظاهرين الحجارة على أفراد الأمن وحاولت إزالة الحواجز التي نصبوها بالقوة. فردت قوى الأمن باستخدام الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية وخراطيم المياه. كما قام بعض المتظاهرين بإشعال النار فـي صفائح النفايات وتدمير ممتلكات عامة مثل إشارات المرور وعدادات الانتظار. وأفادت قوى الأمن الداخلي بجرح 99 شخصاً، بينهم متظاهرون وأفراد من قوى الأمن، واحتجاز 32.
– اندلعت الاشتباكات مجدداً بين المتظاهرين وقوى الأمن فـي 25 آب.
وختم تقرير «هيومن رايتس ووتش» انه عند حفظ الأمن فـي المظاهرات، على قوات الأمن بما فـيها القوات العسكرية، أن تتقيد بـمبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفـين المكلفـين بإنفاذ القوانين (المبادئ الأساسية). وتدعو المبادئ الأساسية موظفـي إنفاذ القانون إلى تطبيق الوسائل غير العنفية قبل اللجوء إلى القوة، وقصر استخدام القوة على ما يتناسب مع جسامة الجرم، وعدم استخدام القوة القاتلة إلا حيثما تعذر تجنبها لحماية الأرواح. وقد تبنت قوى الأمن الداخلي ميثاقاً سلوكياً فـي 2011، ينص على أنه لا يلجأ أفراد قوى الأمن لاستخدام القوة ما لم تكن ضرورية ومتناسبة، وبعد استنفاد جميع الوسائل غير العنفية الممكنة، وفـي الحدود الدنيا اللازمة لتنفـيذ المهمة.
Leave a Reply