امتلأ مسرح ثانوية «فوردسن» في ديربورن بالاضواء، عندما قدم المخرج القادم من استراليا حيدر الشلال عرض مسرحية «عربة السلام»، التي قام بتأليفها بنفسه باستخدامه لأسلوب «التجريب» بكل مفاصله، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً. وقد نهل الشلال من دراسته الاكاديمية في كلية الفنون الجميلة في بغداد، وصهرها مع خبرته الطويلة كأستاذ في معهد الفنون الجميلة في البصرة العراقية، ليعجنها مع سني خبرته كممثل ومخرج، ويخرج لنا بعمل راق على مستوى فني عال، لم تشهد مدينة ديربون مثيلاً له.
الشلال يؤدي التحية للجمهور متوسطاً الممثلين. |
تدور موضوعة المسرحية حول الحرب والسلام، إذ تتعرض شخوصها لأزمات على المستوى الشخصي والوطني والعالمي، محيلةً العرض من قضية محلية الى مسألة كونية، فمن منا، نحن شعوب الأرض، لم يعان من ويلات الحروب، وكم استنزفت تلك الحروب من طاقات وامكانيات البشر، وأثّرت في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعوب؟.
امتد الشلال بثيمة المسرحية الى جذورها الاولى، حيث اعتبر أن أول دعوة للسلام قدمها ابن آدم لاخيه التوأم، مستشهدا بما جاء في الآية الكريمة، حينما خاطب هابيل أخاه قابيل، فقال له: «لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني، ما أنا باسط يدي إليك لأقتلك»، معتبراً إياها أول دعوة للسلام منذ الخلق الأول، وهو أمر خالف فيه الشلال ما كان مطروحاً سابقاً، إذ فسرت تلك الدعوة من قبل جميع من تناولها الى انها اول دعوة للعنف والقتل.
وفي هذا السياق يتحدث مؤلف المسرحية عن أن تأكيده على أن الأخ المرتكب فعل القتل هو التوأم، وهو استخدام دلالي يشير الى ان العنف انما جاء من نفس المشيمة التي غذت الجنينين وأنشأت الخلق. وهنا يطرح المؤلف في تأويلات نصه قضية شغلت وما زالت تشغل المجتمعات الانسانية الى يومنا هذه، وهي قضية الصراع الطائفي الذي يدمر المجتمعات وبناء الدول، عبر نخرها من داخلها في نزاعات داخلية، عندما تلجأ الى العنف كوسيلة لحسم هذه الصراعات. وهذا يؤشر على فطنة الكاتب وتعمقه فلسفيا في موضوعة مسرحيته. ان تأمل مسألة السلم والعنف وطرحهما كمادة فلسفية في نص مسرحي، امتلك سلاسة في اللغة ودقةً في اختيار المفردات وفق نسق علائقي، منح لغة النص قوة وجمالية، أعطت بالتالي المخرج-المؤلف مفاتيحاً لمعالجتها درامياً في العرض المسرحي. اذ لم تكن المفردة في الدراما صوتاً مجرداً فحسب، بل كانت تفجر حدثاً يستمد باروده من ذاكرة الشخصية (أو المجموعة). كما طرح المؤلف في نصه مفهوم الإرهاب، متجاوزاً المفهوم التقليدي للإرهاب، ناشراً اياه على مساحة أوسع، فالتسلط إرهاب، والتجويع إرهاب، والتخويف والتهديد إرهاب، والتخلف وفرض الرأي أو مصادرته اعتبره أيضاً إرهاب.
انتقى لنا الشلال نماذج شخصياته من معوقي الحروب، كما أظهر المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تمر بها شخصياته كضحايا للعنف، وبذلك فقد أدى هذا العرض وظيفة اجتماعية تدعو للسلم والتعايش بين بني البشر، بالإضافة الى تناوله قضية البيئة وسلامتها بصفتها ضرورة لاستمرار حياة الجنس البشري.
زخر عرض مسرحية «عربة السلام» بصور جمالية قدمها الفنان الشلال باستخدامه تكوينات الممثلين لتشكل نحتاً بارزاً على لوحات ثابتة قام برسمها الفنان حيدر الياسري، وهو ما حول سينوغرافيا العرض المسرحي الى ابداع تشكيلي، حرك فيه المخرج ببراعه الصورة ليرسم الدهشة على وجوه المتلقين، وقد بدا ذلك واضحاً في مشهد «المنافي». ولا بد من الإشارة هنا الى أن ضعف امكانيات الاضاءة في المسرح نفسه، لم يمنع المخرج من تحقيق الإبهار في العرض، حيث استخدم اضاءة بسيطة ومؤثرات ضوئية غاية في السهولة لتحقيق الاجواء المطلوبة للمشاهد.
امتاز اسلوب حيدر الشلال في هذا العرض بالممازجة بين فنون عدة، فقدم الموسيقى والغناء والرقص التعبيري بالاضافة الى الأداء الدرامي، وأناط بالمهمة الى المطرب المحترف رعد بركات وممثلين أجادوا جميعاً في ادائهم لأدوارهم، وحازوا على اعجاب المتفرجين، مثل أسعد غالب وأمير المشكور وسعدون النور وحسام العبودي. ولا يفوتنا أن نذكر أن العرض كان برعاية «منتدى الرافدين للفنون»، ومن المزمع اعادة تقديم المسرحية في شباط (فبراير) المقبل، بناءً على العديد من الطلبات، ليتسنى لمن لم تسنح له مشاهدة العرض الأول، أن يشاهد هذا العرض المتميز والجدير بالاعجاب.
Leave a Reply