في 16 الشهر الماضي، آب (أغسطس)، وخلال الاحتفال التأبيني بمناسبة أربعينية الراحل آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، وبحضور علماء دين ونشطاء وفعاليات من الجاليتين العربية واللبنانية، أعلن الشيخ عبداللطيف بري، مرشد “المجمع الإسلامي الثقافي” تصديه للمرجعية، بدعوى خلو الساحة اللبنانية من المراجع الدينيين، خاصة بعد رحيل المرجعين الشيخ محمد تقي الفقيه والسيد محمد حسين فضل الله.
وفي إعلان الشيخ بري عن تصديه ذاك، تكون تجربته أول مرجعية فقهية تبدأ في الغرب الأميركي (وتشمل كندا وأستراليا وأوروبا)، وهي مرجعية من المأمول لها (والمتوقع منها) أن تراعي الشروط الموضوعية للواقع الغربي، السياسية والثقافية والاقتصادية، بسبب خبرة الشيخ بري في العمل الديني منذ ما يزيد على العشرين عاما، خاصة وأن الإسلام، كدين، يتضمن بالإضافة إلى المحتوى العقائدي، منظومة تشريعية كاملة، تعرف بـ”الشريعة الإسلامية”.
في لقاء لـ”صدى الوطن” مع الشيخ عبداللطيف بري، أجاب سماحته على جميع الأسئلة التي تتصل بأسباب إعلان المرجعية، وظروفها، إضافة إلى أسئلة تتعلق بواقع المسلمين وعمل المؤسسات الإسلامية في المنطقة، فكان هذا الحوار:
– أعلنتم التصدي للمرجعية في أربعينة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله. هل من دلالات خاصة لهذا الإعلان في هذا الوقت بالذات؟ وما هي الآليات التي اعتمدتموها للتصدي للمرجعية؟
نعم. جاءت وفاة السيد المرجع السيد محمد حسين فضل الله جاءت بعد وفاة مرجع كبير آخر في لبنان هو سماحة الشيخ أحمد تقي الفقيه، ثم جاءت بعد وفاة عدة مراجع في مدينة قم وقبلها في النجف الأشرف، وبدأت الساحة العالمية تفرغ من المرجعيات الدينية. ولما كانت تجربتنا هنا قد وصلت إلى مستوى النضج الذي يؤهلها إلى إعلان المرجعية، وخصوصاً في هذا المنقلب الأميركي، كان لا بد من إعلان هذه المرجعية.
وأما الآليات المتصلة بهذه المرجعية فإنها لاشك تتضمن تقديم مشروع وبرنامج عمل لهذه المرجعية في الولايات المتحدة له خصوصيات تنتاسب مع الساحة في هذا البلد، وأيضا تتناسب مع الساحة العالمية من جهة أخرى. ومن جملة الآليات في العمل، تشكيل لجان لدراسة حاجات المسلمين والجاليات العربية في هذا المنقلب للبدء بتلبية هذه الحاجات والاهتمام بها. هذه بعض الآليات العملية الاجتماعية، وبالطبع هناك آليات تتعلق بالكتابات إذ أنه لنا كتابات عديدة، فنحن ننشر ونؤلف ونحاضر وندرس وندرّس ونناقش منذ ٥٠ سنة حتى الآن. والكتب والمنشورات جزء من هذه الآليات بطبيعة الحال..
– لكن جرت العادة في العرف الشيعي أن يتم إعلان المرجعية وتكريسها بشهادة أهل الخبرة، أو بالشياع. أما في حالتكم فقد تم إعلان المرجعية بشكل شخصي بدا وكأنه خروج عن الأعراف الشيعية، كيف تنظرون إلى هذه المسألة؟
كثير من المراجع بدأوا مرجعيتهم بدون شياع، ثم تحقق الشياع لاحقاً، حينما بدأ الناس يدققون في فتاواهم وفي كتبهم، وفي تحليلاتهم الفقهية حتى رأوا الشيء الذي يؤكد قدرتهم على القيام بهذه المهمة، علماً بأن الشياع في حالتنا موجود في الساحة.. وقد بدأ منذ ٢٠ سنة أو نصف هذه الفترة على الأقل، حيث بدأنا نصدر الفتاوى والأحكام الشرعية في الساحة، بحيث أن العديد من الناس قالوا بأن هذه المرجعية كانت موجودة عندنا، ولم يحدث شيء جديد، وهذا يدل أن الساحة تلتزم بهذه المرجعية وتأخذ بها.
– تتويجاً. هل أصدرتم رسالة عملية خاصة؟
نحن ننشر فتاوانا وآراءنا في صحيفة “العصر الإسلامي” في كل شهر منذ سنوات طويلة. وقبل صحيفة العصر.. كنا ننشر فتاوانا في نشرة تسمى “أسئلة حول الإسلام”. وقبل هذه النشرة كنا ننشر في مجلة يصدرها “المجمع الإسلامي الثقافي” كانت تسمى “الثقافة الإسلامية”.
– وهل تم نشر الرسالة العملية في كتاب خاص بها؟
الرسالة العملية نشرت في الصحيفة كما قلت، ويجري تحضيرها الآن لتنشر في كتاب خاص، وهي تقريبا جاهزة للنشر، حيث أنني أقوم بمراجعتها لتفادي بعض الأخطاء المطبعية، وإن شاء الله بعد العيد تكون قد أصحبت جاهزة للنشر.
– وكيف كان يتم استقبال تلك النشرات والكتابات، أو هذه الرسالة العملية، من قبل المجتمع الديني والمؤسسات الدينية المختلفة؟
بترحيب بالغ وباهتمام شديد، لأنها كانت تلامس أشد القضايا حساسية في حياة الإنسان المغترب في الولايات المتحدة وغيرها.
– بإعلانكم عن المرجعية، تمت الإشارة بأن “المجمع” سيكون بمثابة مركز للمرجعية في بلاد الاغتراب، ماذا عن العالمين العربي والإسلامي، هل ستمتد مرجعيتكم إلى تلك المناطق من العالم، وكيف ستكون علاقة المجمع بالمؤسسات الدينية الأخرى؟
“المجمع الإسلامي” مكان للانطلاق وليس أن “المرجعية للمجمع الإسلامي”. أرجو الانتباه إلى هذا. بمعنى أن المرجعية هي لكل المراكز والمؤسسات الإسلامية ولكل الجوامع والمساجد.. ولكل الولايات، وطبعاً هي مفتوحة للعالم، لكن أولوياتها هنا في الساحة الأميركية وكندا واستراليا وأوروبا.. هذه أولوياتها، لكن انفتاحها يمتد إلى كل العالم.
– في هذا السياق، هل ستتغير العلاقة بين “المجمع” كمؤسسة دينية وبين المرجعية والمؤسسات الدينية الأخرى، نتيجة إعلان المرجعية؟
صحيح. فالمرجعية تعمل للكل لكن لها خصوصية في العلاقة مع “المجمع” إداريا حيث احتضن مسيرتها.
– وما هو الشكل الجديد لهذه العلاقة؟
الشكل الجديد.. هو أن المرجعية سوف لن تعمل من الآن فصاعداً فقط لمصلحة “المجمع الإسلامي”. سيكون “المجمع” والمراكز الإسلامية الأخرى موضع أهمية شديدة بالنسبة للمرجعية، وكأن المرجعية تتبنى كل المراكز الاسلامية. في البداية كان العمل هنا من قبل العالم الديني يهتم بالمجمع الإسلامي ويعطيه أولوية. الآن أصبحت.. المرجعية قيادة إسلامية لكل المسلمين فلا بد أن تكون الأولوية لكل المراكز الإسلامية.
– في الموضع ذاته، وانتقالا إلى الواقع الملموس، كيف تنظرون إلى ما يجري في “المركز الإسلامي في أميركا” وما يحدث من خلافات وتجاذبات وتبادل اتهامات بين إمام المركز السيد حسن القزويني وبعض الأطراف الأخرى على خلفيات مالية تتعلق بأموال الخمس والزكاة، وطريقة التصرف بها؟
بداية، أنا لا أرى أن مركزاً أو شيخاً فوق النقد. لا أحد فوق النقد إلا من له العصمة من الله سبحانه وتعالى. وأما المراكز والمؤسسات والمشايخ فكلهم في موضع النقد والمحاسبة. وكنت منذ سنوات طويلة أتحدث إلى إخواني المشايخ وأقول لهم: فلنرحب بالنقد. وأنا أول من يرحب بالنقد بدليل أن مجموعة من الإخوان طلبوا مقابلتي لمباركة هذا العمل، فقلت لهم لا يكفي أن تأتوا وتباركوا، بل يجب أن تأتوا وتقيّموا، بل وتنتقدوا، لأن النقد يبلور العمل. والنقد قضية مهمة جدا. لكن طبعا.. المقصود النقد البناء وليس الإهانة والتجريح والاضطهاد.
وأما في ما يجري في “المركز الإسلامي” فمذ جئت من لبنان منذ حوالي الشهر، اجتمعت فوراً بحشد كبير من علماء الجالية ومشايخها لدراسة كيفية التعاطي والتعامل مع هذه القضية. وأجمعت كلمة المشايخ الكرام بأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً مالم يتم تفويضهم بشكل مطلق من قبل الأطراف الموجودة هناك للدخول في التحكيم، وحتى الآن لم يأت التفويض المطلق من قبل الأطراف، ولا نستطيع أن نفعل شيئا.. إذ إن من شروط الحكم حينما يدخل حكما في أية قضية أن يُعطى تفويضا من قبل جميع الأطراف.
– ولكن القانون الأميركي يسمح وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الخيرية وغير الربحية بحق الاطلاع على السجلات والمحاسبة المالية بدون تفويض..
مادام هناك قوانين خاصة بالمؤسسات من هذا القبيل، فلتأخذ القوانين مجراها. إذا لم يحكم الطرفان أحداً من الجالية ولم يعتمد اخراج الحل على الحكمة وتحمل المسؤولية.
– يخشى البعض أن في ذلك إساءة للمؤسسات الدينية وسمعتها؟
صحيح إلا حينما تأخذ الأمور مجراها بطريقة حضارية حكيمة، وغير اضطهادية، تحق الحق ولا تظلم أحداً.
– بالعموم، كيف تقيمون عمل المؤسسات الاسلامية في الغرب عموما، وفي هذه المنطقة خصوصا، وهل لديكم رؤية استشرافية حول دور المرجعية في هذه المنطقة؟
عمل المؤسسات هنا عمل جيد. ونحن بالطبع نحب أن يتضاعف هذا العمل في الكمية ويتألق في النوعية. ونرحب كذلك بالتنافس الإيجابي الجيد من حيث كونه قيمة قرآنية في قوله تعالى “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”. فلا شك ولا ريب في دور التنافس في تقدم الحياة وتطورها وأهميته. وأما كيف ننظر في عملية تطوير واقع المؤسسات.. فلاشك أنه لدينا مشروع سنقدمه إلى الجالية في عملية تطوير هذه المؤسسات وكيفية دعمها في ديترويت وفي المناطق الأخرى.
– في ما يخص التوتر والشحن الطائفيين اللذين تمتد آثارهما إلى المهجر، بحيث أن تبدو الحساسيات المذهبية والطائفية وكأنها عابرة للتاريخ وللقارات، هل لديكم سماحة المرجع أية آليات لاحتوائه؟ وهل من خطوات ملموسة في هذاالمجال؟
نعم. إن الخطوات الملموسة بدأت قبل سنوات وذلك أن علماء المذاهب الإسلامية اجتمعوا ووضعوا وثيقة عهد في العمل المشترك لعدم الانجرار إلى الفتن الطائفية. وقعوا الوثيقة ونشرت في الوسائل الإعلامية، وقد كنت في جملة من وقع عليها. ميثاق وعهد أمام الله تبارك وتعالى ألا ينزلقوا إلى الفتن الطائفية وبث روح الكراهية أبدا وأن يكونوا يداً واحدة. ومنذ تم توقيع تلك الوثيقة حتى الآن، فإن المرض الموجود في مناطق عديدة في الشرق الأوسط لم يصل لينا. هو حتى الآن ملجوم، وقد كنا نعمل في “المجمع الإسلامي”، والآن المرجعية سيكون لها تمثيل في اجتماع العلماء السني-الشيعي الذي يعقد تقريبا مرة كل شهر، وتدرس فيه أمور المسلمين وأمور الجاليات، وتدرس حتى قضايا تتعلق بأحوال الشرق الأوسط وكيفية مواجهتها، والمتكلم باسم هذا التجمع هو ولدنا الدكتور الشيخ باقر بري.
– من خبرتكم في بلاد الاغتراب، هل تؤمنون بما يسمى “الاسلام الاغترابي” أو “الإسلام المهجري”؟
في الواقع.. الإسلام هو الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول “قل إن هدى الله هو الهدى”. الإسلام واحد، ولكن كيف نقارب هذا الإسلام ونتعاطى معه.. أقول وبكل صراحة، بأن العديد من الفتاوى التي تأتي من الشرق الأوسط تعقد حياة الإنسان العصري إلى أبعد الحدود، حتى أن كثيرا من الناس تركوا الدين لعدم الإمكانية في تطبيق الدين نتيجة تعقيد الفتاوى مع أن الإسلام دين يسر. ونحن سنحاول إن شاء الله من خلال مرجعيتنا أن نيسر تعاليم الإسلام بشكل مبسط وعملي جداً، وأن نتجنب تعقيد أمور وحياة الناس، وخصوصاً ما يتعلق بحياة الإنسان العصري سواء كان في المغترب الأميركي أو في البلاد العربية، فالإنسان العصري يواجه مشكلات عديدة الآن، ولايمكن تطبيق الإسلام على مستوى بعض الفتاوى القديمة، أو التي لم تأخذ بعين الاعتبار تعقد الحياة وتطورها، فهنا سنلحظ هذا الجانب بالنسبة لحياة الإنسان العصري ولاسيما في الغرب.
– هل يمكن من حيث المبدأ.. التوفيق بين أحكام الشريعة الإسلامية ومواد القانون الأميركي؟ في كثير من الأحيان يوجد تضارب وتناقض في الأحكام الشرعية والقانونية، كيف يوفق المسلمون في أميركا بين هذين الأمرين؟
هنا تكمن أهمية المرجعية الفقهية لأنه كلما امتلك الفقيه قدرة تكييفية بين الحكم الشرعي الأساسي وبين القوانين الحديثة كلما استطاع الإنسان في المغترب الأميركي وفي الغرب، أن يطبق الإسلام بسهولة أكثر.
– بمعنى اشتقاق وإيجاد أحكام شرعية تتكيف مع القوانين الوضعية؟
صحيح. وهذا يتعلق بالقدرة التي يمتلكها المجتهد للتكييف الفقهي القادر على ذلك. أما إذا كان كان الفقيه محدود الرؤية ومحدود القدرة على التكييف الفقهي فإنه لا يستطيع القيام بهذه المهمة الشائكة، بحيث أن الفقيه القادر الذي يمتلك الديناميكية في التحليل الفقهي يستطيع أن يصل إلى قدرة عالية وفعالية في التكييف الفقهي الدقيق بحيث يمكن أن يلائم ويوائم وينسق بين أحكام الشريعة وأكثر القوانين الموجودة في الولايات المتحدة، أو في الغرب عموما.
– هل تتطلعون إلى ممارسة دور سياسي إلى جانب الدور الديني، لناحية تمثيل صوت المسلمين في المحافل والدوائر والنشاطات المختلفة، وما رأيكم بالجدل الدائر بخصوص بناء مركز إسلامي في منطقة مانهاتن في مدينة نيويورك، أو ما بات يعرف بالمنطقة “غراوند زيرو”؟
هناك دور سياسي يتصل بالمفردات السياسية.. هذا الدور يتصل بالسياسيين، أما في القضايا السياسية المتصلة بصميم الإسلام وشؤون المسلمين وشؤون الإنسانية وحقوق الإنسان فلا بد من الاهتمام به، وهذا لا نسميه سياسة بقدر ما نسميه مسؤوليات مرجعية مهمة وضرورية جدا.
وبالنسبة إلى بناء المسجد.. لي رأي خاص في هذا الموضوع، فقد كنت أرى أن على المسلمين هناك أن يؤجلوا فكرة بناء المسجد إلى سنة ثانية أو ثالثة أو إلى وقت يكون ملائماً أكثر حتى لا نثير ضجة نحن الآن في غنى عنها. أعتقد أن الضجة ستؤجج الكراهية والأحقاد ضد المسلمين وستعيد النار والنعرات في الولايات المتحدة التي كنا قد بدأنا ننساها وبدأ الشعب الأميركي ينساها. الآن .. بسبب موجة الكراهية التي أثارها أولئك المتعصبون والمتظاهرون ضد بناء هذا المركز ستثير أحقادا وآلاما وتنكأ جراحا دفينة في ضمير الشعب الأميركي. من هنا كانت المصلحة تقضي أن يؤجل هذا العمل ولو إلى فترة أخرى وخصوصا أن المعركة الآن تؤجج في مواجهة الرئيس أوباما وإصلاحاته التي يحاول أن يقدمها في هذه المرحلة السياسية.
– كيف هي علاقتكم مع المسلمين من غير العرب؟
يوجد تواصل، وقد اتصل بي مؤخرا بعض الأخوة الباكستانيين لأخذ إجازة لإعطاء شيء من أموال الخمس للمنكوبين بفعل الفيضانات في الباكستان، وأنا قلت لهم لا مانع لدي في إعطاء إجازة في هذا الخصوص شرط أن تتم مراجعتنا شخصياً لتجنب أن تذهب الأموال إلى قوى أو جهات متطرفة ومتشددة أو توضع في أيدٍ غير أمينة.
– في نهاية هذا اللقاء، هل تود أن توجه كلمة إلى الجالية العربية؟
أود أن أقول إن المرجعية الفقهية الدينية لا تعني مخاطبة الجالية ومخاطبة الناس من أعلى وأن هناك فوقية بل تعني المعايشة مع الناس ومع همومهم والاستماع إلى آمالهم وآلامهم ونقدهم وتقييمهم. انها تحتاج الى جهد استثنائي، فلا يبخلنّ أحد علينا بالتقييم والنقد البناء وحتى المشافهة الشخصية والمقابلة الشخصية باستمرار لأننا بصدد تطوير العمل، ولسنا بصدد دعم الشخصنة.
Leave a Reply