التحقيق بتهريب الأموال والتلاعب بسعر الليرة خط أحمر؟
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
سأل رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل –أثناء الحرب العالمية الثانية– عن وضع القضاء في بلاده، فجاءه الجواب بأنه سليم وبخير، فكان ردّه: إذن بريطانيا بخير.
كلام تشرشل أصبح مضرب مثل يستند إليه الباحثون في توصيف الدول، انطلاقاً من حال القضاء فيها، فهو معيار حكم القانون والعدالة والمساءلة والمحاسبة، ويقع على عاتقه إحقاق الحق العام والخاص وحفظ القوانين والأنظمة، أما عندما يكون القضاء فاسداً، فإن الدولة تصبح فاشلة، وهذا حال لبنان اليوم.
أثواب بيض
التاريخ الحديث حافل بالقضاة الشرفاء الذين تمردوا على السلطة القضائية الفاسدة في بلادهم وكشفوا عوراتها وخضوعها للسياسة والمصالح والمغانم. حتى أن ثورات وانتفاضات اندلعت في العديد من الدول بوجه فساد القضاء، كما حصل في إيطاليا التي خلع القضاة الشرفاء فيها ثوبهم الأسود التقليدي، ولبسوا الثوب الأبيض في رسالة واضحة ضد «المافيا» والجريمة المنظمة في بلادهم، فواجه أصحاب الأثواب البيض من القضاة نظيفي الكف، مافيات الفساد والاحتكار، وتعرض بعضهم للقتل، لكنهم واصلوا ثورتهم البيضاء، ضد المافيا السياسية والإجرامية، وتغلبوا عليها فأصبحوا نموذجاً يحتذى به في العالم، لتطهير القضاء من الفاسدين المتعاونين مع السياسيين الفاسدين.
القضاء المسيّس في لبنان
ما حلّ بالقضاء الإيطالي، يستنسخه القضاء في لبنان، الذي يخضع بشكل شبه كلي للسياسة والسياسيين، إذ يتم تعيين القضاة في مراكز القرار، بناء على المحاصصة السياسية والتوزيع الطائفي، بين أركان السلطة الحاكمة.
فهذا النهج يمارس في لبنان منذ الاستقلال في العام 1943، وهو مستمر حتى يومنا هذا، مما أفقد القضاء استقلاليته التي هي مطلب إصلاحي دائم، لتحرير القضاء من سطوة السياسيين. وقد جرت محاولات عدة في لبنان، لجعل القضاء مستقلاً، لكنها باءت بالفشل بسبب الشراكة السياسية–القضائية القائمة منذ عقود. إذ تقدّم عدد من النواب باقتراحات قوانين لإعطاء السلطة القضائية استقلاليتها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، باعتبارها سلطة مستقلة قائمة بذاتها، فتتولى هي نفسها تعيين القضاة في المراكز العليا من خلال آلية واضحة وشفافة. وقد سبق للنواب حسين الحسيني وسليم الحص وبطرس حرب ونسيب لحود ونجاح واكيم وزاهر الخطيب وغيرهم من النواب، أن تقدموا بمشاريع قوانين لتحقيق استقلالية القضاء في العام 1997، لكن المقترح نام في أدراج مجلس النواب، مثل غيره من المقترحات الإصلاحية.
اشتباك عويدات–عون
ظهر تسييس القضاء جلياً في لبنان، في أكثر من قضية طُرحت عليه، لاسيما تلك التي تتعلق بالفساد وهدر المال العام، فكانت تُفتح ملفات مرتبطة بصفقات وتلزيمات، ويبدأ القضاء بالتحقيق فيها، سواء كانت آتية بدعوى أو إخبار، لكنها ما تلبث أن تطوى ويؤجل البت فيها فتنام في الأدراج. وعندما يحاول أحد القضاة تحرّيها تُكف يده عنها، تماماً مثل ما حصل مؤخراً مع المدعي العام في جبل لبنان القاضية غادة عون، التي باشرت التحقيق بملف تهريب الأموال من لبنان إلى الخارج من قبل مصارف ورجال السياسة والمال والأعمال.
ويدرك القاصي والداني أن هذه القضية المالية، المرتبطة بأموال المودعين وسعر صرف الليرة أمام الدولار، تمس بالصميم «مافيات» المصارف والصرافين وشركات نقل وتحويل الأموال، التي تتحرك دون رقابة أو تدخل من «مصرف لبنان» الذي تراجع احتياطه الإلزامي بفعل حركة الأموال إلى الخارج إلى ما دون 16 مليار دولار، واعترف حاكمه بأن أموالاً تمّ تحويلها إلى الخارج منذ العام 2017، وأن وتيرة التهريب ازدادات في العام 2019 مع اندلاع الحراك الشعبي، وهو ما أفقد لبنان السيولة النقدية بالعملات الأجنبية، وتحديداً الدولار، الذي يجني المتلاعبون به أرباحاً طائلة، على حساب المواطنين الذين خسروا 90 بالمئة من قدرتهم الشرائية، وفقدوا جنى عمرهم في المصارف التي أودعوها معاشاتهم التقاعدية ومدخراتهم، فإذا بهم أمام حالة إفلاس وفقر بعد رفض المصارف دفعها لهم.
وبعد أشهر من ترك الساحة دون حسيب أو رقيب، دعا «مصرف لبنان»، مؤخراً، المصارف إلى إعادة الرسملة بنسبة 3 بالمئة، وإعادة ما بين 15 إلى 30 بالمئة من الأموال التي تم نقلها إلى الخارج، وذلك بعد أن تولت القاضية عون، التحقيق في ملف تهريب الأموال وتلاعب الصرافين بسعر الليرة.
وكانت عون قد استدعت إلى التحقيق حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة، الذي تمنّع عن الحضور، كما استمعت إلى نقيب الصرافين وعدد منهم، ممن حامت حولهم الشبهات في التسبب بتدهور سعر صرف الليرة من خلال منصات تابعة لهم بهدف جني الأرباح.
وقد تمكّنت القاضية عون من الوصول إلى معلومات حول المضاربين بالسوق السوداء، وأقفلت محلات صيرفة، وادّعت على سلامة، بأنه خالف قانون النقد والتسليف، ولم يقم بوظيفته التي تتطلب منه ضبط سعر النقد الوطني، ومنع التلاعب بسعر الليرة التي وصلت إلى حافة الانهيار. لكن إجراءات القاضية المحسوبة على التيار العوني، جوبهت بمعارضة وضغوط من أرباب السياسة والمال، وعلى رأسهم سلامة والصرافون.
وبقدرة قادر أمر مدعي عام التمييز غسان عويدات بكفّ يد عون عن الملف وتحويله إلى القاضي سامر ليشع، بعد أن قررت فتح تحقيق بشركة «مكتّف» لنقل وتحويل الأموال، لصاحبها ميشال مكتف وهو صهر الرئيس السابق أمين الجميّل وطليق ابنته، وناشر جريدة «نداء الوطن»، والذي خاض الانتخابات النيابية عام 2018 على لائحة «القوات اللبنانية».
شركة المكتّف لم تمتثل للقاضية عون ورفضت تقديم معلومات عن الأموال التي قامت بنقلها إلى الخارج لحساب مصارف ومنها «سوسيتيه جنرال» لصاحبه أنطوان الصحناوي، وغيره من المصارف، وهذا ما أغضب عون، التي قررت أن تذهب إلى الشركة بنفسها، وبحراسة أمنية لتحصل على المعلومات والمستندات اللازمة، لكنها جوبهت برفض من محامي الشركة، الكسندر نجار، الذي أبلغها بأن المدعي العام التمييزي كفّ يدها عن القضاء، فاستعانت بعناصر من «أمن الدولة» كما حضر أنصار «التيار الوطني الحر» لمؤازرتها، فتجمعوا أمام مقر الشركة في عوكر، وهو ما اعتبره البعض تسييساً للقضية وإقحاماً للقضاء في صراع سياسي–طائفي بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» وآخرين هبّوا لنصرة عويدات.
سقوط الدولة
لا شك أن الانقسام حول القضاء في الشارع، هو إشارة سلبية تنذر بقرب زوال الدولة بحسب توصيف وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان.
لكن في الواقع، إن القضاء في لبنان ليس سوى محميات سياسية وطائفية، إذ يكفي النظر إلى المواقع الرئيسية في الجسم القضائي لمعرفة أنه قضاء مزارع، كما هو الحال بالنسبة للأجهزة الأمنية والعسكرية والإدارية والدبلوماسية وهيئات الرقابة… فالمدعي العام التمييزي (سنّي) من حصة «تيار المستقبل»، والمدعي العام المالي علي إبراهيم (شيعي) من حصة حركة «أمل»، ورئيس مجلس شورى الدولة والمجلس الدستوري والقضاء الأعلى وهي مراكز مارونية، تخضع لاختيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتياره السياسي. أما القاضية عون، التي تعلن أنها غير حزبية لكنها متأثرة بالجنرال عون منذ أن كان قائداً للجيش فتؤكد أنها تؤيّد مسيرة الرئيس الإصلاحية ومكافحته للفساد، وإصراره على التدقيق المالي الجنائي بحسابات الدولة على عكس بقية أركان الدولة.
القاضية عون، من موقعها كمدعي عام في جبل لبنان، تقوم بمهمة واجبة عليها، بأن تكشف الفساد، وتهريب الأموال والتلاعب بسعر الليرة، هو ما تسعى إلى تحقيقه، لكن يؤخذ عليها أسلوبها الانفعالي، رغم أن لا أحد ينكر مهنيتها ونزاهتها بشهادة مَن عمل معها وهو ما منع مجلس القضاء الأعلى من عزلها وفق المادة 95 من قانون القضاء العدلي، بتهمة التمرد على قرار رئيسها عويدات الذي أمر كف يدها، فواجهته بشكوى أمام التفتيش القضائي، بأنه تعدى على صلاحياتها.
في المحصلة يمكن القول إن الصراع في لبنان انتقل إلى داخل القضاء. ويدرك اللبنانيون تماماً أن قضاءهم ليس بخير، رغم نزاهة بعض القضاة الذين شكلوا نادياً لهم في محاولة لاستنساخ التجربة الإيطالية في مواجهة مافيا السياسة والفساد. لكن الجميع يدرك أيضاً أنه إذا سقط القضاء سقطت معه الدولة وهيبتها، أو بالأحرى ما تبقى منها.
Leave a Reply