من المتعارف عليه أن الدواء يتطلبه المرض العضوي، لكن الدواء النفسي كيف يمكن تدبيره، خصوصاً إذا تفشى في حالة اجتماعية مهدداً حياة أسر بأكملها حيث ينخر في أعمدة البيوت التي تحيا تحت سقفها الأسرة فيقلب حياتها من الطمأنينة والسعادة إلى جحيم لا يطاق؟
الأسرة التي أتناول مشكلتها جاءت إلى بلاد الاغتراب وكانت متماسكة ومثالاً يحتذى في الانسجام والتعاون المتبادل بحيث كانت موضع الاحترام من قبل الجميع.
ابتدأت مشكلة الأسرة يوم فرض الزوج على زوجته أخذ المسؤولية كاملة على عاتقها في تمشية أمور أفراد العائلة وأن تتخلى عن أية وظيفة تود الالتحاق بها رغم أنها كانت تعمل سابقاً وكان مشهوداً لها بالكفاءة في عملها واختصاصها، فاضطرت الزوجة نزولاً عند رغبة الزوج إلى تنفيذ أوامره حرصاً على مستقبل الأسرة، فأخذت تدير كل صغيرة وكبيرة في أمور العائلة ولم تقصر يوماً في أداء واجباتها معه أو مع الأبناء.
وبعد فترة قصيرة، لاحظت الزوجة عزوف الزوج عن الاهتمام بها وبأولادهما، وأصبح منزل الأسرة بالنسبة إليه أشبه بالفندق يأتيه متى يشاء وخلال بضعة أيام في الأسبوع، وإذا أتاه يأتي متأخراً حتى آخر الليل، وعندما يطمئن إلى إخلاد العائلة للنوم ينسل بهدوء ويغادر المنزل كاللصوص ظناً منه أن لا أحد يراه فيما كانت الزوجة تراقب كل ما يفعله.
وإزاء ذلك الوضع لزمت الزوجة الصمت حرصاً على نفسية الأولاد من أن تتأثر بمخلفات الخصام إن حصل، فضلاً عما إذا اكتشفوا سوء سلوكه وتصرفاته، ثم إن الزوجة اكتشفت فيه الخيانة الزوجية بحكم أدلة أخفتها عن أبنائها، ولم يكتف بذلك، بل تمادى في التسيب حتى أصبح يأتي إلى البيت يوماً واحداً أو يومين في الأسبوع ليطبخ بنفسه مختلف أصناف الطعام وبكميات كبيرة أمام مرأى من الزوجة دون مراعاة لشعورها أو أن يخجل من نفسه ومن كبر سنه، ثم يترك الأوساخ في مكانها والتي نتجت عن تقطيع الخضار واللحوم وغيرها، ليحمل (حلل) الطعام ويذهب بها إلى عشيقته التي أصبحت زوجته الجديدة إذ أصبح على شاكلتها.
تمادى الزوج في غيه بحيث أصبح لا يكفي ما كان يتركه من نقود حتى لثمن الخبز في الشهر، مما اضطر الزوجة إلى العمل بغية تأمين الطعام لأولادها مدة سنة كاملة، غير أن الأولاد كبروا وكبر معهم «الهمّ» ولم يعد بمستطاعها التوفيق ما بين متطلباتهم وتوصيلهم إلى المدارس وتأمين حاجيات المنزل من مأكل ومشرب وتنظيف وبين الوقت الذي يستغرقه عملها، فـأمنت لها بعض النقود إحدى بناتها مما ساعدها في تخفيف العبء ولو قليلاً عنها.
ومما زاد في الطين بلة وفوق أتعابها أن الزوج تنكر لزوجته التي كافحت من أجله وصبرت معه على أمل أن تجني ثمار تعبها، لكنها وجدت نفسها أخيراً تجني الحرمان والشقاء، فأخذ يعتدي عليها ويضربها ويصفها بأبشع النعوت رغم أنها تحملت خياناته المتعددة، والمصيبة تكمن في أنه لم يكن جاهلاً أو أمياً وإنما كان صيدلانياً يعطي الأدوية للناس وهو عاجز عن مداواة نفسه، أقصد أن يعطي جرعة وفاء لنفسه، ويبدو أن هذه الصفة لم تجد طريقها إلى قاموسه.
بعد هجر طويل دام لسنوات ابتعد خلالها عن عائلته وأصبح أسيراً لنزواته الرخيصة، داهمه الكبر ولم يعد ينتمي إلى شكله حيث غير الهرم ملامحه ولم يعد مرغوباً به من الجنس الخائن مثله، أخذ يحاول استدراج أولاده إليه كأنه لم يتركهم لعواصف الزمن طيلة تلك السنوات ناكراً أمامهم أفعاله الدنيئة، غير أن الأولاد أصبحوا يمتلكون من الإدراك ما يعينهم على اكتشاف زيفه، فكان يراوغ معهم كعادته ويناقض نفسه مما يثير استهجان الأبناء.
لم تفرض الأم على أولادها الابتعاد عن والدهم رغم أنها أصبحت لا تطيق رؤية وجهه لما سبب لها من متاعب، ورغم أنها حاولت أن تعيد الزمان إلى الوراء مستذكرة أيام المودة والصفاء لكن عمق الطعنة التي وجهها إليها كانت غائرة في قلبها فلم يتح لها فسحة الغفران، فقد قتل أحلامها دون أن يعترف بجريمته.
ثم كبر الأولاد وتزوجوا، وحين رأت نفسها بمواجهة الوحدة ومن خلفها ذلك التأريخ من الإجهاد والمعاناة، قررت الانتساب لأحد النوادي الرياضية لتملأ جزءاً من فراغها، فتعرفت هناك على رجل مقارب لسنها وكان هو الآخر وحيداً فتزوجته ليس رغبة في الزواج ولكن لرد الصفعة للخائن، وكان القدر قد أنصفها هذه المرة إذ وجدت ضالتها في هذا الرجل الطيب حيث أكرمها وجعلها تنسى عذاباتها وأكرم أولادها ومد يد العون لهم إذ كان ميسور الحال فكسب ودهم ومحبتهم.
ورغم كل الظروف لم تتوقف الأم عن الطلب من أولادها في أن يبقوا على اتصال مع أبيهم، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل، لأن الجفاء الذي لقوه منه كان أكبر من أن يقربهم إليه فالبعيد عن العين بعيد عن القلب..
Leave a Reply