محمد العزير
انتبهت، وأنا أسوي مقعدي وأربط حزام الأمان على متن الطائرة التي ستقلني من سان فرانسيسكو في كاليفورنيا إلى بكين عاصمة الصين الشعبية، أني نسيت أن أجلب معي كمامتين طبيتين من بقايا ما اضطررنا لاستخدامه قبل أسابيع قليلة اتقاءً لدخان حرائق وادي نابا الذي غطى سماء معظم الوادي الشمالي للولاية.
كنت قد حضّرت الكمامتين اللتين يستخدمهما عادة، عمال الدهان والنجارة لتنقية الهواء الذي يتنشقونه أثناء العمل، لأنه قد تراكم في ذهني عبر سنوات، أن الهواء في الصين ملوث جداً، خصوصاً في المدن الكبرى ومنها العاصمة التي تُحجب الشمس عنها بُسحب دخان المصانع والمعامل غير المزودة بعوادم صحية أو مواصفات حديثة، وتسبب الحساسية والأمراض الصدرية لمن يتعرض لها.
انشغلت طوال فترة الاستعداد للإقلاع بكيفية تأمين كمامة فور وصولي إلى مطار بكين، إلى أن اقنعت نفسي بأنه لا بد من وجود محلات لبيع الأقنعة في المطار مادام التلوث شاملاً، وأنا لست الوحيد الذي يتابع وسائل الإعلام الأميركية التي تكرر تلك الاخبار والصور، خصوصاً في السنتين الأخيرتين، منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة واختياره استعداء الصين تجارياً ودبلوماسياً، وكأنه يعوّض للمحافظين وجمهوره عن تغيير التصويب التقليدي على موسكو التي أصبحت في خانة الأصدقاء الشخصيين للرئيس. لا بد إذن أن تكون محلات الهدايا ورفوف المحلات في ردهات المطار مليئة بما أريد، ولا مبرر لكل هذا القلق على الكمامتين اللتين نسيتهما.
سنوات إقامتي الطويلة في كاليفورنيا التي تحتضن واحدة من أكبر الجاليات الآسيوية، الصينيين تحديداً، جعلت منظر ركاب الطائرة وطاقمها مألوفاً. كانت الرحلة الطويلة نسبياً مثل أية رحلة تعبر المحيط، لكن الخدمة كانت أكثر كثافة والمضيفات أكثر عناية من نظيراتهن على الخطوط الأميركية والأوروبية، وهذه مسألة لا تغفل عنها عين مسافر دائم من أمثالي.
حطت الطائرة الضخمة في بكين على وقع النداءات والإعلانات الأخيرة لطاقم القيادة وطاقم الخدمة الذي رحب بنا مذكراً إيانا بتغيير التوقيت لمراعاة فارق الساعات الأربع عشرة عن توقيت الساحل الغربي في الولايات المتحدة.
لحظة بدء الركاب بالخروج، عاودني قلق الحصول على كمامة، إلا أنى لم أرَ مع اقترابي من باب الطائرة أي شخص يضع كمامة قبل الخروج، كذلك لم ألحظ وجود كمامة على وجه أي من الموظفين والعمال الذين استقبلوا الطائرة.
سرت مع المتجهين نحو نقطة الجوازات وليست لدي أية فكرة مسبقة عن كيفية التعامل المحتمل معي. الأخبار الأخيرة تقول إن الأقلية المسلمة في البلاد تتعرض لاضطهاد شديد، وأنا، باسمي محمد علي، وشكلي العربي الواضح وجواز سفري الأميركي موضوع قابل للتحقيق، على الأقل كما يحصل معي في مطارات أوروبا من قبل شركات الأمن الخاصة (معظمها إسرائيلية) حين أكون عائداً من رحلة عربية، وأنا في الأصل أتوجس من رجال الأمن في الدول البوليسية (كما يصف الإعلام الأميركي الصين)، وكما خبرتهم بنفسي في دول عربية كنت مدعواً رسمياً إليها، وكان يتم التعامل معي كمشبوه حتى يصل موفد الاستقبال الرسمي، أو كما حصل معي على الحدود البرية لكرواتيا حين أوقف رجال الأمن، البعثة الجامعية الأميركية التي كنت في عدادها لأكثر من ساعة، فقط لأن فيها من يحمل اسم محمد علي (وهو أنا).
استلم ضابط الأمن الصيني صغير السن، جواز سفري، وضعه على آلة تصوير حديثة، طلب مني النظر إلى الكاميرا، ثم وضع يدي الواحدة تلو الأخرى على شاشة تبصيم إلكترونية. انتهت العملية خلال أقل من دقيقتين، كان خلالها موظفون بلباس رسمي يرشدون كل مسافر إلى الجهة التي يريدها.
في مكتب استعلامات شركة طيران الصين سألت عن اسم الفندق الذي سأحل فيه فأشارت عليّ الموظفة بالتوجه إلى نقطة تجمع محددة. كان في استقبال المجموعة التي أنا فيها موظف آخر قرب المصعد تأكد من وجود اسمي على لائحة يحملها. طلب منا التمهل قليلاً بانتظار بقية النزلاء، ثم تبعناه إلى حافلة أقلّتنا إلى الفندق تحت سماء صافية تميل إلى الحمرة مع مغيب الشمس.
بعد قيلولة قصيرة وترتيب أغراضي في الفندق، قررت أن أتجول في المنطقة التي لا تبعد كثيراً عن المطار. سألت موظف الاستقبال عن مطعم شعبي قريب أو مقهى، فقال لي إن في الفندق مطعم ممتاز ومقهى مريح إلا أنني أخبرته بأني أريد التجول قليلاً بعد الرحلة الطويلة. ناولني بطاقة الفندق وقال لي بإنكليزية ركيكة بعض الشيء: كل هذه المنطقة جيدة واذا ابتعدت كثيراً اطلب من أية سيارة أجرة أن تعيدك إلى الفندق وعنوانه على البطاقة».
كانت عشية بكين، مثل أي مساء في منطقة يغلب عليها الطابع السياحي من حيث كثرة الفنادق وفروع المصارف وأسماء الماركات الأوروبية والأميركية. كانت حركة الناس طبيعية، ولا مظاهر أمنية إلا أمام الفنادق أو فروع المصارف التي يحرسها موظفون بلباس رسمي لا يبرحون مواقعهم.
صباح اليوم التالي بكّرت في النزول بناء على نصيحة الموظف لأتمكن من الوصول إلى «المدينة المحرمة» التي أنوي زيارتها قبل الازدحام. كانت التاكسي بانتظاري لدى خروجي، وقال لي السائق إن الرحلة تستغرق حوالي الساعة.
عبر طرقات نظيفة ومنظمة، وصلنا إلى الطريق السريع الذي يتكوّن من ثمانية خطوط في كل اتجاه ومحاط من الجانبين بمساكب ورد وأزهار متعددة الألوان وكأنها تقف سداً جميلاً بين الإسفلت وبين المساحات الخضراء التي يشقها الطريق، والتي تفسح كلما اقتربنا من قلب المدينة، المجال لمبان حديثة ذات هندسة لافتة تترك بين بعضها مسافات واضحة من الإخضرار. ويبدأ ظهور الجسور العابرة وجسور المشاة التي تزداد كثافة ويزداد معها الظهور الأمني الرسمي. عند فم كل جسر، وفوق كل منصة ينتهي إليها درج المشاة جندي بلباس عسكري يقف متأهباً دون أية حركة، ودون أن يعترض أية سيارة او أي عابر.. يتكرر المشهد بروتينية تلقائية وصولاً إلى ساحة «تيانانمن» الشهيرة المؤدية إلى «المدينة المحرمة».
الدخول إلى المدينة التاريخية الرائعة الجمال شأنه شأن الدخول إلى أي معلم سياحي في العالم. تشتري البطاقة تنتظر دورك لتمر عبر بوابة إلكترونية. الفارق الواضح هنا أن الانضباط سمة شاملة للموظفين والجنود وحتى الوفود المحلية والطلابية القادمة لزيارة هذا الصرح الذي يحفظ صور التاريخ العريق لحضارة من أقدم وأعظم الحضارات في تاريخ البشرية. الفارق الآخر أن عليك أن تبتسم لكاميرا الأمن التي تأخذ صورتك قبل الدخول، دون تفتيش، إلا للذين يحملون حقائب كبيرة. تنتهي من الإجراءات بسرعة وبخطوات قليلة تدخل عالماً آخر من السحر والدهشة وانت تحاول أن تستنهض في ذاكرتك ما اختزنته من مشاهد سينمائية أو وثائقية عن هذا العالم الذي لا يزال يحتفظ بحرمته… يتبع.
Leave a Reply