محمد العزير
لا يكفي يوم واحد أو حتى بضعة أيام لزيارة «المدينة المحرمة» في بكين بقصورها الثلاثة عشر ومئات المباني المنتشرة على ضفاف نهر الذهب المزدان بأصناف الورود والزنبق والأزهار في ظلال السور الهائل الذي يزيد من مهابتها.
كانت هذه المدينة التي تربو مساحتها على 725 ألف متر مربع ويتوسطها قصر «الوئام الأسمى»، مصدر القرار السياسي والسيادي للصين لقرابة 500 عام، من عهد سلالة «مينغ» إلى سلالة «كينغ» التي انتهت عام 1912.
كل ما فيها ساحر ويليق بالأباطرة وبالحضارة العريقة التي كانوا يحكمون باسمها.
تؤدي البوابة الرئيسية من المدينة التاريخية فوراً إلى ساحة «تيانانمن» (بوابة السلام الإلهي) التي أصبح اسمها «ساحة الثورة» بعد انتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ عام 1949، والتي شهدت بعد أربعين سنة على ذلك، وبموازاة انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية صيف 1989، مواجهات عنيفة بين قوات الأمن وبين آلاف المتظاهرين المطالبين بتغيير الحكم واعتماد الديمقراطية وإطلاق الحريات. كانت الساحة عصراً، مكتظة بآلاف الناس، معظمهم في مجموعات منظمة يبدو أنها آتية من مدن أخرى.
صباح اليوم التالي كنت أمام خيار من اثنين؛ زيارة سور الصين العظيم مثل آلاف السياح، أو زيارة منطقة شعبية اقترب فيها أكثر إلى الناس وأحاول أن أرى عينة من الحياة اليومية للناس هنا.
كان الخيار الثاني مرجحاً في الأصل فالجدار يمكن أن أراه في أي برنامج وثائقي أو عبر الصور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أما فرصة التعرف على الناس وملاحظة يومياتهم ففرصة قد لا تتكرر.
قصدت منطقة «ويداوينغ هوتونغ» في ضاحية «دونغشينغ» في الجزء الشرقي من بكين. طلبت من السائق أن لا يستخدم الطريق السريع لأني أريد أن أرى الأحياء السكنية والأزقة والحارات.
كانت الرحلة الطويلة بعض الشيء انتقالاً إلى عالم آخر لا ينفصل تماماً عن مشاهد «المدينة المحرمة» ولا يخفي الوجه الحديث الزاحف إلى المدينة العريقة التي تخال أن صراعاً ثلاثي الأضلاع يجري على أرضها. الأحياء القديمة ببيوتها التقليدية المتلاصقة، ذات السطوح المثلثة والبوابات التي لم تتخل عن طابعها التراثي ولا عن اللون الأحمر لقرميد قناطرها ولا عن مساكب الورد والزنبق على مداخلها، لا تزال تحاول الصمود أمام زحف المباني الحديثة الغربية الطراز. بنايات سكنية متعددة الطوابق تحتل الطابق الأرضي منها محلات ومكاتب شركات وفروع مصارف، وتشكل نوعاً من الانتقال البصري التدريجي إلى ناطحات السحاب والبنايات الشاهقة التي تحاول بالجملة والمفرق أن تبرز شخصيتها المعمارية المميزة، لكنها في المحصلة مثل كل الأبراج الحديثة في دبي أو سنغافورة او مانهاتن، مع احتفاظ واضح بمساحات خضراء وتنظيم مدني مريح.
زحف المباني الحديثة، أو الأصح، زحف السكان الجدد من المهنيين والموظفين والمنتمين حديثاً إلى الطبقة المتوسطة، انعكس على طبيعة الحركة التجارية داخل الأحياء القديمة التي تحولت مبانٍ كثيرة فيها إلى مطاعم ومقاهٍ ذات مواصفات عصرية تحاول جذب الزبائن بخدماتها وأجوائها التراثية المطعمة بالمتطلبات الحديثة من انترنت و«واي فاي» وشاشات عرض كبيرة. أكثر ما لفت انتباهي وسط تلك الأحياء أن لا متسولين فيها ولا خيماً للمشردين تحت الجسور أو خلف المباني، ولا حضوراً أمنياً ظاهراً… لم يكن الناس البسطاء الذين لا يعرفون الإنكليزية يتحاشون محاولة الاستماع إلى سؤال ينتهي عادة بابتسامة اعتذار. إلا أن معظم أصحاب وموظفي المقاهي والمطاعم الحديثة في الأحياء القديمة يجيدون ما يكفي من الإنكليزية لتدوين طلب أو الإجابة على سؤال فضولي.
في طريق عودتي إلى الفندق استعداداً لرحلتي الليلية، استعدت مشهد ساحة تيانانمن التي كانت قبل ثلاثين سنة محط أنظار العالم الذي كان يتوقع انهيار الحصن الأخير للاشتراكية الموجهة، بعد انهيار حصنها الأول في روسيا. فجأة استفاق بداخلي، الصحافي وطالب العلوم السياسية ليطرح أسئلة جوهرية لا بد منها، والأسئلة في هذا التوقيت تصبح أكثر الحاحاً. ففي زمن دونالد ترامب، لا بد من السؤال عن جدوى كل ما كانت الماكينات السياسية والأكاديمية والإعلامية تضخه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم عن حسنات النظام الغربي وضرورته للتقدم والازدهار، عندما تأتي انتخابات قائمة على الخوف بنصّاب إلى البيت الأبيض. لا شك أن الحرية أسمى القيم الممكنة، لكنك أمام المشهد الصيني يفترض أن تضعها في سياق الأولويات.
عدا عن النفاق النخبوي الغربي في مسألة الديمقراطية والحرية وطرحها بشكل انتقائي لأسباب دعائية وجيوسياسية وكيدية، حيث كانت الولايات المتحدة تدعم أعتى الديكتاتوريات وتتدخل مباشرة لقمع ديمقراطيات لا تعجبها (مثل مصدّق في إيران وأليندي في تشيلي)، وكان الغرب كله يستنفر من أجل سجين رأي في دولة اشتراكية في الوقت الذي يدعم إسرائيل وجنوب أفريقيا لإبادة السكان الأصليين بوحشية، مثلما فعلت هجرات أوروبا بالسكان الأصليين من أميركا إلى الأقدام السوداء في الجزائر. ماذا تعني الديمقراطية في عهد ترامب الذي يتوج فورة العنصرية المكشوفة التي فاضت مع رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، وأدت إلى النتيجة التي نراها اليوم في «بريكزت» وترامب الذي يحسب أن العالم ملك له يتصرف فيه كما يشاء. وعدا عن السياسة الخارجية المنافقة، أليست مهمة أي نظام في أية دولة تحسين شروط حياه الشعب؟ منذ جاءت النسخة الوقحة من المحافظين الجدد، وبعد تهاوي الدول البوليسية في روسيا وأوروبا الشرقية، يتعرض الفقراء وذوو الدخل المحدود والمهاجرون والمهمشون في أغنى الدول الغربية لعملية تفقير ممنهجة. تقتطع موازنات التعليم والرعاية الصحية والصحة النفسية وتزداد طوابير المشردين الدائمين (حوالي 600 ألف مشرد بينهم عائلات وأطفال في أميركا) ويزداد عدد القابعين تحت خط الفقر (حوالي 43 مليون أميركياً) وتزداد معدلات الجريمة وخصوصاً الجرائم الجماعية (حيث لا يجرؤ الكونغرس على تشريع الحد من انتشار السلاح بين الناس) ويزداد عدد ضحايا الإدمان على المخدرات (موت أكثر من 300 اأف شخص سنوياً) فيما يوضع المهاجرون الأطفال في اقفاص لا تصلح للدواجن ويموتون على الحدود فقط لأنهم يتطلعون إلى فرصة لحياة أفضل، فيما وسائل الإعلام الأميركية تتباهى بمليارات جيف بيزوس وبل غيتس ومارك زوكربرغ. ماذا لو نجحت انتفاضة 1989 في «ساحة الثورة»؟ ما هو الضامن ألا تتحول الصين إلى ما يشبه روسيا اليوم، قطاع عام يباع للمحاسيب ودولة بوليسية تقتل معارضيها بوقاحة ورئيس نرجسي يتنمر على دول الجوار ويعيد العلاقات الدولية إلى دبلوماسية البوارج.
في الصين التي انتقلت خلال جيلين فقط من مجتمع زراعي ريفي ينتمي إلى العصور الوسطى إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبعد انتهاء عهد الثورات العقائدية والثقافية وبالتوازي مع انهيار تجارب اشتراكية انشغلت بالسلاح والأمن فقط، ينتشل الاقتصاد الصيني في السنة، عشرة ملايين عائلة من تحت خط الفقر، البنايات الحديثة والطرقات النظيفة والسيارات الجديدة كلها لأبناء أو أحفاد فلاحين حوّلهم الاقتصاد الجديد إلى مهنيين ومستثمرين وجامعيين وموظفين. والمكتب السياسي الذي كان بعبع الإعلام الغربي، أكثر من نصف أعضائه الآن من المستثمرين والصناعيين والميسورين الذين يشاركون في صناعة المعجزة الصينية.
هنا نعود إلى الأسئلة الجوهرية، ليس من باب التفاضل ولكن من منطلق عملي، ألا تستحق تجربة من هذا النوع أن يتعامل معها الإعلام الغربي بنزاهة؟ وهل يؤتمن الغرب عموماً وأميركا خصوصاً على علاقة تقدم مصلحة شعب الصين في الصين على مصلحة شركات السلاح الأميركية أو شركات الفاكهة أو بيبسي كولا التي كانت وراء انقلابات وأعمال شغب في أميركا الجنوبية. ربما كان هذا السؤال ممكناً في لحظة باراك أوباما الذي حاول تغيير دينامية العلاقات الدولية مع أميركا، لكن لا أحد يسمع الآن، فترامب يحورب في البيت الأبيض، وتيريزا ماي تستعدي البولنديين في بريطانيا، وأكثر الشخصيات العنصرية وضاعة في تاريخ أميركا، ستيف بانون، ينتقل إلى أوروبا ليكون منسقاً لليمين المتطرف على المستوى القاري. بالطبع الصين دولة كبرى ذات مصالح، وجودها على المسرح الدولي يملي عليها أحياناً مواقف لا ترضي الجميع، خصوصاً ما يتعلق بنا كعرب من خلال دعمها لأنظمة دموية وقمعية، إلا أن ما ينبغي أن يقال هو أن الصين لم تعتد على أية دولة ولم ترسل بوارجها وجنودها إلى دولة أخرى تحت أي مسمى، وهي في علاقاتها الدولية أقل شراهة وشراسة ونهباً من كل التجارب الغربية التي بدأت بالاستعمار ولم تنته فصولها بعد. كثير من الأسئلة لا بد أن تطرح وكثير من الصور النمطية لابد أن يعاد النظر فيها إذا كنا بالفعل نعيش في قرية كونية واحدة.
في الصين نظام شمولي… لكن من يمتلك النزاهة ليميز بين شمولية قاتلة ومفقرة كما مخلفات الاتحاد السوفياتي، وبين شمولية ناظمة تضع مجتمعها في طليعة التطور والنمو؟
Leave a Reply