كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تُعرف الطائفة السّنّية في لبنان، بأنها لم تكن جاذبة للأحزاب، لاسيما العقائدية منها، بل كانت تتجاوب أحياناً وفي مراحل مع دعوات قومية للوحدة السورية مطلع القرن العشرين، أو الوحدة العربية منذ منتصف الخمسينات مع ظهور الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي لمع نجمه مع تصديه للعدوان الثلاثي البريطاني–الفرنسي–الإسرائيلي على مصر وتحديداً قناة السويس التي أممتها «الثورة المصرية» بعد سنوات من إنطلاقتها ونجاحها في الإنقلاب العسكري في 23 تموز 1952 الذي أطاح بحكم الملك فاروق، وتسلّم الحكم مجلس قيادة الثورة برئاسة اللواء محمد نجيب، ليخلفه عبدالناصر.
متظاهرون مؤيدون للزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر في شوارع بيروت في ستينيات القرن الماضي. (أرشيف) |
فلم يصمد الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا الحزب الشيوعي، ولا حزب البعث لاحقاً، في الساحة السّنّية التي استقطبت منها هذه الأحزاب شخصيات بارزة، وقد تزامن تأسيسها بعيد إنعقاد المؤتمر السوري الأول في ثلاثينات القرن الماضي، الذي كان يدعو الى وحدة «بلاد الشام» وانضمام لبنان إليها، ومن أبرز رموزه رياض الصلح وصائب سلام وعبدالحميد كرامي وعمر بيهم، إضافة الى شخصيات مسيحية وشيعية، حيث طالب أبناء الطائفة السّنّية، برفض إنسلاخ لبنان عن سوريا، والإلتحاق بركب «الثورة السورية الكبرى»، إلا أن هذه الدعوة، ما لبثت أن تلاشت مع تقسيم سوريا الطبيعية الى كيانات سياسية، ومنها لبنان الذي استقل عام 1943، تحت «صيغة العيش المشترك» بين المسلمين الذين تخلوا عن الوحدة العربية، والمسيحيين الذين قبلوا أنهم جزء من العالم العربي، ولبنان أحد كياناته.
من النجادة الى الناصرية
برز حزب النجادة، برئاسة عدنان الحكيم الذي واجه «حزب الكتائب»، لكن النجادة لم تبقَ واندثر حزبها، لتحل محله قوى ناصرية، استفادت من بروز ظاهرة عبدالناصر، لتنشأ على إسمه أحزاب وتيارات وتواليه شخصيات، وكان همه تأطير الحالة الشعبية حوله، للإستفادة من مشروعه القومي الوحدوي بعد الوحدة المصرية –السورية ، إذ بات الرئيس المصري، هو الأقوى لبنانياً وحتى عربياً، وأصبح النفوذ للنظام المصري في لبنان عبر سفيره عبدالحميد غالب، يساعده النظام اللبناني الذي كان يديره المكتب الثاني (مخابرات الجيش اللبناني)، الذي كان ضباطه موالين لعبدالناصر فكرياً وسياسياً، وهو الذي كان له الدور في انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، بموافقة أميركية بعد أحداث العام 1958 التي أطاحت بالرئيس كميل شمعون وسقط التمديد له، مع إنكسار المشروع السياسي الذي راهن عليه، وعُرف بـ«حلف بغداد» أو مشروع الرئيس الأميركي إيزنهاور.
ملأت الناصرية، الساحة السّنّية في لبنان، وكان رموز «الإسلام السياسي» فيه موالين للنظام المصري الذي بات له الحضور الأقوى سياسياً وشعبياً وكان كل مرة شخص يريد أن يصل الى منصب نيابي أو وزاري وسياسي، يذهب الى القاهرة، ليحصل على صورة له مع الرئيس عبدالناصر التي تحوّلت الى تأشيرة مرور الى العمل السياسي، وهذا ما فعله عدد لابأس به من الشخصيات السّنّية، دون استثناء، حيث لعب ضباط المكتب الثاني، من غابي لحود، وسامي الخطيب، ونعيم فرح، وغيرهم دوراً في تظهير شخصيات سنّيّة خصوصاً ولبنانية عموماً، في كل المحافظات اللبنانية وإستأثرت الشهابية بمفاصل الدولة ومؤسساتها، فحكمت عبر تزاوج مصالح سياسية لشخصيات طائفية مثل صائب سلام وكمال جنبلاط وبيار الجميّل وصبري حمادة وغيرهم من أرباب النظام.
عباءة عرفات
ما إن أفل نجم الرئيس عبدالناصر بعد وفاته، وظهور المقاومة الفلسطينية وإتخاذها من لبنان عموماً وجنوبه خصوصاً، قاعدة لإنطلاق العمل الفدائي، وقف المسلمون السُّنة الى جانبها، وإن نالت دعم الأحزاب الوطنية والقومية والتقدمية، إلا أن السُّنة نظروا إليها كنصير لهم في الصراع الداخلي مع «المارونية السياسية»، وتمّ التداول بعبارة أن المقاومة الفلسطينية هي «جيش المسلمين» في لبنان، وبات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات (أبو عمار) الآمر الناهي في لبنان بعد تشريع السلاح الفلسطيني عبر «اتفاقية القاهرة» التي وُقّعت بين قائد الجيش العماد إميل البستاني وعرفات برعاية الرئيس عبدالناصر في القاهرة في العام 1969.
وهكذا كانت الطائفة السّنّية بعد عبدالناصر تحت عباءة عرفات، الذي وبعد أن خرج من لبنان إثر الغزو الصهيوني عام 1982، فرغت الساحة السّنّية وتحديداً بيروت من مرجعية سياسية، بعد إنتفاضة 6 شباط 1984 على عهد الرئيس أمين الجميّل، الذي فُرض عليه إلغاء إتفاق 17 أيار، وإدخال رموز وطنية الى السلطة، وترؤس رشيد كرامي للحكومة، الذي اغتيل في العام 1987 بعبوة ناسفة وضعت أسفل مقعده في طائرة مروحية تابعة للجيش اللبناني، وحكم القضاء اللبناني على رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع بالسجن المؤبّد لإرتكابه الجريمة.
مع إغتيال كرامي، والغياب السياسي القسري للرئيس صائب سلام في الخارج، واندثار التنظيمات الناصرية التي أنشأتها حركة «فتح»، خلت الساحة السياسية السّنّية من مرجعية، سوى الرئيس سليم الحص الذي لم يكن يهوى أن يكون زعيماً شعبياً، وسيطر قادة الميليشيات على المناطق، «القوات اللبنانية» في الشرقية و«الحزب التقدمي الإشتراكي» في الجبل، و«حركة أمل» في الجنوب والبقاع، وتقاسمت مع «الإشتراكي» النفوذ في بيروت، والذي دار صراع دموي بينهما، ليحسمه دخول القوات السورية من جديد الى لبنان في العام 1987، والإمساك بالقرار اللبناني، بعد أن طهرّت طرابلس من «الجماعات الإسلامية» كحركة «التوحيد الإسلامي»، وامتداد للحرب على «الإخوان المسلمين» في سوريا والتي دامت لسنوات.
بعد الحرب
انتهت الحرب اللبنانية، مع التوقيع على إتفاق الطائف، الذي جيء بمهندسه رفيق الحريري المدعوم سعودياً الى رئاسة الحكومة، والذي بدأت زعامته السّنّية تظهر مع إقفال بيوت سياسية في بيروت كآل سلام والصلح، وتحجيم دور آل كرامي، وظهور أثرياء سُنّة كنجيب ميقاتي الذي أصبح رئيساً للحكومة مرتين، ومحمد الصفدي الذي شغل منصب وزير الأشغال وطُرح اسمه لرئاسة الحكومة، وهذا حصل بعد إغتيال الحريري الذي أمسك بالطائفة السّنّية التي انتقلت زعامتها لابنه سعد، فكان له مفتي الجمهورية مع مفتي المناطق ورجال الدين، الذين كان يوزع عليهم المال، وتمكّن من وجوده في السلطة أن يكون أغلبية الموظفين موالين له، وبات الرقم الصعب في المعادلة الداخلية وفي دوره الإقليمي والدولي.
ومع غياب الحريري الأب، ووراثة إبنه سعد للبيت السياسي بالغطاء السعودي نفسه، بات منازعوه كثر على الساحة السّنّية، مثل ميقاتي والصفدي وفيصل كرامي في طرابلس، مع بروز ظاهرة أشرف ريفي، التي لن تعمّر كثيراً إذا لم يتوفر له المال الذي شحّ مع «تيار المستقبل» فتراجع حضوره الشعبي، وقد يضيق تمثيله النيابي، وفق قانون الإنتخاب الذي يصر الحريري أن يكون على النظام الأكثري.
الساحة اليوم
ففي الساحة السّنّية بدأ يبرز دور متزايد للقوى الإسلامية، على حساب التيار السياسي المعتدل، إذ تعمل «هيئة العلماء المسلمين» على الإمساك بالساحة السّنّية، وهي إئتلاف ما بين «الجماعة الإسلامية» وتيارات سلفية من مذاهب شتى، حيث تضم بين صفوفها نحو 800 رجل دين، ولديها مساجد أقامتها في العديد من المناطق، ولا تخضع لدار الفتوى، كما مساجد أخرى تابعة «لجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» (الأحباش) التي تناوئ الفكر الوهابي، وقُتل رئيسها الشيخ نزار الحلبي عام 1994 على يد مجموعة عصبة الانصار التي تدين بالوهابية.
تراجع «تيار المستقبل» على الساحة السّنّية، لتملأه الجماعات الإسلامية شعبياً، من خلال الجمعيات التي أنشأتها والمدارس والمستوصفات، وهيئات الإغاثة التي اقامتها، واستفادت من ما حصل في سوريا من أحداث، لطلب المساعدات للنازحين من دول تدعم المعارضة ضد النظام السوري، الذي قامت «هيئة العلماء المسلمين» بتجنيد مقاتلين ترسلهم الى سوريا لمحاربة النظام، فكانوا ينضمون الى مجموعات إرهابية تكفيرية كتنظيمي «داعش» و«النصرة»، وسقط العشرات منهم قتلى في صفوفهم، حيث لم يكتفِ هؤلاء بذلك، بل ساعدوا «داعش» و«النصرة» على مهاجمة الجيش اللبناني في عرسال التي أمنوا لهم فيها مقراً، وقد لعب الشيخ سالم الرافعي في فترة ترؤسه للهيئة دوراً سلبياً، في التحريض على الدولة ومؤسساتها، حيث كشفت محاكمات المحكمة العسكرية لعناصر تابعة للجماعات الإرهابية عن الأخطار التي كان يمثلها ومازالوا على لبنان، وهم يشكلون الخلايا النائمة الإرهابية، التي كان يتغاضى عنها «تيار المستقبل» معتبرة أنها ستؤمن التوازن العسكري مع «حزب الله»، وقد لعب فرع المعلومات دوراً في ذلك، والذي كان يُنظر إليه من قبل هذه المجموعات كما اعلنت «كذراع أمنية رسمية للطائفة السّنّية في لبنان»، وهو أخطر ما عرفه لبنان في تاريخه الحديث، بتصنيف الأجهزة الأمنية والعسكرية، وفق طائفة رئيسها، والتشكيك بكل جهاز لا ينتمي رئيسه لهذه الطائفة أو تلك.
خطر الإرهاب
جاء توقيف الشيخ بسام الطراس، لتورطه بالإنتماء الى تنظيم «داعش» وتلقيه تعليمات من أميره «أبو براء» في الرقة، بعد التحقيق معه من فرع المعلومات، إثر اعتقاله من قبل الأمن العام، وتدخل وزير الداخلية نهاد المشنوق لإطلاق سراحه على خلفية مذهبية. واعترف الطراس بوجود مجموعات لـ«داعش» في لبنان، تحت مسمى جمعيات يترأسها مشايخ، وآخرهم الطراس نفسه الذي كان يتلقى دعماً من تركيا ودول خليجية، ليكون كالشيخ سراج الدين زريقات الذي أوقف قبل سنوات وأطلق سراحه بتدخل من المفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني.
وتبين أن الطراس مسؤول في «كتائب عبدالله عزام» واعترف بمسؤوليته عن تفجيرات حصلت في الضاحية الجنوبية والبقاع، وقبله اعتقل الشيخ عمر الأطرش من عرسال والذي له دور في أعمال إرهابية، وهؤلاء يعملون في دار الفتوى والشيخ الطراس كان مفتياً لراشيا، ليتبيّن أن دار الفتوى اخترقت من قبل قوى إسلامية متطرفة، وكاد الشيخ درويش الكردي أن يصبح مفتياً للجمهورية، لولا تدارك الوضع، مما يؤشر الى أن الساحة السّنّية، التي تغيب عنها الأحزاب القومية والوحدوية، والتيارات السياسية المعتدلة، فإن الفراغ تملأه المجموعات الإسلامية، التي وضعت خطة للإمساك بالوضع اللبناني، الذي يمر بمرحلة دقيقة جداً، وأن إستمرار سوريا متفجرة، والحرب قائمة في اليمن، والعراق ينتظر مصير «الفدرالية» فيه، فإن لبنان ومع عدم انتظام عمل المؤسسات الدستورية فيه، والخلافات السياسية العميقة التي تنحو منحى طائفياً، فإنه لن ينجو من تنامي القوى الإسلامية المتطرفة، وتحويل أرضه الى أرض جهاد وفق نظرية زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري.
Leave a Reply