لايزال طرح الرئيس بري المتعلق بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية مدار جدل على الساحة السياسية بين مؤيد مغال ومعارض مبغض. فالأول يعرف نفسه، ويعرف بأنه أكثر من مارس الطائفية والمذهبية وأكثر من استفاد من “الفيتوهات” الطائفية، ولكنه مستعد لأن يعلن “توبة نصوحة” والتكفير عن كل الآثام التي ارتكبها وعن الآلام التي سببها للناس.. هذا على الأقل ما يُفهم من مجرد الطرح أو تأييده، لأن ذلك يستوجب جلد الذات وتأنيب النفس والعودة عن كل أخطاء الماضي والحاضر المستمر..
والثاني يعرف نفسه أيضا، ويعرف بأنه لولا الانقسام الطائفي والمذهبي لما كان على الأقل ما هو عليه اليوم، فهو نسخة طبق الأصل عن الأول مع فارق أن الأخير هو الطارح والمبادر، ومع فارق الإطاحة بكل مكتسبات الثاني، اذا طُبق مبدأ إلغاء الطائفية السياسية..
فقد أعاد الطرح انتاج صورة مغايرة عن تلك السائدة في المشهد السياسي اللبناني الذي لا يُرى الا من زوايتين اثنتين: معارضة وموالاة أو 8 و14 آذار. وفجأة اجتمعت كلمات كل من الكتائب والقوات و”التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” على معارضة تشكيل اللجنة متذرعة بأن الالغاء يجب أن يبدأ من النفوس قبل النصوص، وهي اللازمة التي طالما رددتها بكركي لمواجهة أي محاولة للمس بالتركيبة الطائفية في الدولة وإداراتها ومرافقها العامة. وبدا الرئيس بري وحيدا في مواجهة رياح، هو من فتح بابها، في ظل صمت حليفه “حزب الله” الذي بدوره لا يريد إحراج حليفه الجنرال عون، الذي يخوض حربا بوجه مناوئيه سمير جعجع وأمين الجميل على الساحة المسيحية. يمكن إذا أردنا التعاطف مع الجنرال عون ومنحه أسبابا تخفيفية أن نعزو سبب معارضته تشكيل لجنة إلغاء الطائفية السياسية الى حالة اللاستقرار على الساحة المسيحية العامة كونها الأكثر مرونة والأكثر تأثرا بعملية الاستقطاب والانتقال حيث يشعر المسيحيون بالأمان وبضمان وجودهم وحفظ حقوقهم في الدولة. وقد اختزل سمير جعجع هذه المسألة عندما قال: “لولا وجود الطائفية والمحاصصة داخل الدولة لكان الوجود المسيحي قد انتهى منذ زمن”. وهنا تكمن العقدة الديموغرافية عند المسيحيين بشكل عام وعند مسيحيي 14 آذار بوجه خاص الذين كانوا يدعون الى انتخاب رئيس الجمهورية بالنصف زائدا واحدا خلفا للرئيس لحود. ولكن ماذا لو تحالف السنة والشيعة والدروز وحصدوا أغلبية الثلثين في مجلس النواب؟
وبالرغم من أن ليس إلغاء الطائفية السياسية، بل مجرد تشكيل لجنة لها، أمر بعيد المنال، فان مجرد الطرح قد دحض كل ادعاءات قوى “14 آذار” طيلة الأزمة الحكومية، وأسقط كل المنطق (أو اللامنطق) السياسي الذي تسلحت به “14 آذار” من أجل السيطرة على مقدرات الدولة ومن اجل الاستمرار في حكومة بدون تمثيل شيعي، مع ان الطائفية التي تتبارى قوى “14 آذار” في سرد محاسنها تحتم وتفرض تمثيل كل الطوائف في الحكومة ومن بينها الطائفة الشيعية. فكيف يمكن لمن يحارب الغاء الطائفية السياسية أن يكون مع حكم الأكثرية وضد الحكم التوافقي؟! فمن يطالب بالابقاء على الطائفية السياسية يجب عليه أن يعترف بممثلي تلك الطوائف وأن يحفظ لها وجودها ومراكزها في الدولة. وليجيب من “ينطح الهواء” عن المدة التي استمرت فيها حكومة السنيورة بدون تمثيل شيعي وعن شرعية القرارات التي اتخذتها وصولا الى قرار اعفاء العميد شقير من مسؤولية أمن المطار. أليس هذا اجراء لم ترض عنه الطائفة الشيعية بكل نوابها وبكل مؤسساتها الدينية والاجتماعية والأهلية حتى أصغر جمعية في اصغر قرية؟..
فمن يعارض الالغاء عليه أن يقر بالتوافق، وعليه أن يرضخ لإرادة كل طائفة وعليه أن يقبل قلق وخوف الشيعي من اسرائيل وعدم تخليه عن السلاح، سلاح المقاومة، وعليه أن يقبل بالثلث المعطل وعليه أن يتقبل فرض الطائفة الشيعية نبيه بري رئيسا لمجلس النواب، وعليه أن يعترف ويحترم عادات وتقاليد الطوائف التي ازعجت أمين الجميل حتى وصل حد التحذير من غزو الحجاب للمناطق المسيحية وحد التفريق “بين عاداتنا وعاداتهم”.
فالطائفية السياسية تعارض الحكم الأكثري وهو ما دعا اليه البطريرك صفير من خلال قوله “الأكثرية ربحت فلتحكم والأقلية خسرت فلتعارض”، لا تصح هذه المقولة في لبنان الا اذا تم الغاء الطائفية السياسية. ويبقى على الرئيس “الطارح” نبيه بري أن يمضي قدما في طرحه ويتخلص من مقولته الشهيرة “الكفاءة أولا واذا لا فإني أريد حصتي كاملة، فمن حضر السوق باع واشترى”، وأن يعلن تخليه عن حصته أو “كوتته الشيعية” لصالح الكفاءة من كل اللبنانيين.. لم لا.. لم لا يتخلى الثنائي الشيعي عن حصته لصالح الكفاءة والخبرة ويثبت بأنه لا يخاف من شريكه الآخر..
لم لا يبدأ الرئيس بري بنفسه.. أوليس الأقربون أولى بالإصلاح؟
Leave a Reply