أعاد استفتاء الاستقلال في كردستان العراق مؤخراً، رفع منسوب الحديث عن اتفاقية سايكس–بيكو التي صارت من المسلمات غير القابلة للنقاش في أي حديث سياسي عن الكيانات العربية. تتناول الأقلام والألسن الاتفاقية وكأنها قانون نافذ تسهر على تنفيذه قوى العالم المجتمعة على تقسيم العرب وتفتيتهم، وفق المعزوفة التي لم تنته منذ أكثر من مئة سنة، والتي لا تزال تجد الماء المتدفق في طواحين الخطاب السياسي الممانع حالياً، الوطني التقدمي سابقاً، وطواحين نظرية المؤامرة التي لا تستهدف طوال قرن كامل من الزمن إلا العرب.
في ادبيات النخب السياسية والإعلامية العربية كل حديث في السياسة لا يقود إلى سايكس–بيكو لا يعتد به. هي النقطة المؤسسة لكل الكيانات السياسية العربية، وهي تالياً حجر الرحى في كل مقاربة لأي حراك إثني أو اقلوي أو أي مطالب باللامركزية أو الفدرالية. هي الجواب على أي سؤال. تتغير الشعارات والأنظمة والتحديات والإيديولوجيات والولاءات، يتغير العالم من حولنا والثابت الوحيد سايكس–بيكو، وإذا احتاجت إلى اسناد يأتيك وعد بلفور. إنه أمر مثير للعجب أن لا يبقى من كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي شرّعت وجود الدول الوطنية، وحتى اتفاقية باريس للتغيير المناخي عام 2015، إلا هذه الاتفاقية.
منذ توقيع اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، والتي لا ترقى في نظر القانون الدولي إلى رتبة معاهدة، والتي لم يبلغ الدبلوماسيان اللذان وضعاها، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو مرتبة الوزارة، والتي كان الغرض منها التفاهم بين بريطانيا وفرنسا كقوتين استعماريتين قبل انسحاب روسيا منها، على تقاسم النفوذ بينهما في السلطنة العثمانية التي كانت على وشك الانهيار، شهد العالم عشرات المعاهدات والاتفاقيات والأحداث الهائلة.
لا يكفي كتاب لسرد كل المعاهدات والاتفاقيات والأحداث وما نتج عنها منذ ذلك التاريخ، لكن المحطات الكبرى فعلت في أجزاء أخرى من العالم ما هو أعظم وأكبر وأبعد اثراً في أقاليم ودول أكبر وأهم وأوسع نفوذاً من دول الشرق الأوسط وكل التركة العثمانية. اتفاقية بريست ليتوفيسك (1918) أخرجت روسيا البلشفية حديثاً من الحرب العالمية الأولى. اتفاقية سان جرمان (1919) أطاحت بالإمبراطورية المجرية الهنغارية وأنشأت دولاً وأعادت أخرى إلى الخريطة السياسية. في العام نفسه أنهت معاهدة فرساي الحرب العالمية الأولى رسمياً وكرست هزيمة ألمانيا ودول المحور، وتأسست عصبة الأمم بمجهود أميركي كمحفل دولي لحل النزاعات، ووعدت اتفاقية الملك فيصل بن الحسين (الذي كان لا يزال أميراً يومها) مع ممثل الحركة الصهيونية حاييم وايزمان (أول رئيس لإسرائيل) بالتعاون بين العرب واليهود لتنفيذ وعد بلفور.
واستهل العام التالي (1920) باتفاقية انشاء رومانيا كدولة بعد ضم إقليم بيسارابيا الذي كان تحت النفوذ العثماني. وفصلت اتفاقية برنو بين تشيكوسلوفاكيا والنمسا. في العام نفسه شهدت أوروبا 11 اتفاقية ومعاهدة أخرى تراوحت بين الاعتراف بدول ناشئة أو التحالف بين دول قائمة. وشهد العام 1921 وحده، ١١ معاهدة واتفاقية معظمها يصب في إطار تصفية تركات الحرب العالمية الأولى. وفي العام 1922 إنشئ اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية بموجب معاهدة. وحمل العام التالي اتفاقية ترسيم حدود الدولة التركية.
لم تنفع المعاهدات والاتفاقيات الكثيرة الهادفة إلى حسن الجوار وعدم الاعتداء التي توالت بغزارة بعد ذلك، خصوصاً في أوروبا، في تحقيق ما تصبو اليه، وشهدت عشرينات واوائل ثلاثينات القرن العشرين صعود الفاشية والنازية والديكتاتورية الشيوعية، ولم تحقق اتفاقيات الانتداب وما تبعها من معاهدات استقلال ناجز للمستعمرات شيئاً من أهدافها وبقيت حبراً على ورق إلى أن بدأ النظام النازي في ألمانيا بالتوسع الدموي، فأطيحت اتفاقيات فرساي وسان جرمان، واختفت النمسا عن الخريطة السياسية لتتبعها تشيكوسلوفاكيا، فيما انسحبت اليابان من عصبة الأمم وبدأت مشروعها الإمبراطوري الدامي باجتياح جيرانها عشية الحرب العالمية الثانية.
من سخريات القدر أن تكون الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية اتفاقية دولية أخرى. في الثالث والعشرين من آب/أغسطس 1939، وقع الاتحاد السوفياتي وألمانيا معاهدة (فياتشيسلاف) مولوتوف و(يواخيم فون) ريبنتروب (وزيرا خارجية البلدين) التي أزالت عملياً بولندا عن الخريطة السياسية وقسمتها بين البلدين قبل أن يعلن هتلر –بعد أسبوع واحد فقط– الحرب عليها ويجتاح القسم الغربي منها في غضون أقل من أسبوعين، فيما كان الجيش الأحمر يتقدم للاستيلاء على الجزء الشرقي ليدخل العالم أتون أبشع مجزرة شهدها التاريخ.
لا تزال مجريات الحرب العالمية الثانية شاخصة للأنظار ولا يزال بعض الذين عاشوا ويلاتها على قيد الحياة. في غضون ست سنوات سقط ما يقارب الستين مليون قتيل، وجرح أضعاف هذا الرقم، وتشرد وجاع وروّع أضعاف الأضعاف. زالت دول عن الخريطة وأزيلت مدن عن وجه الأرض من دريسدن ودوسولدورف في ألمانيا إلى لندن في بريطانيا ووارسو في بولندا إلى ستالينغراد وموسكو في روسيا إلى نانكنغ في الصين وهيروشيما وناكازاكي في اليابان ضحيتي السلاح المرعب الجديد آنذاك، السلاح النووي.
واكبت الحرب العالمية الثانية وتبعتها اتفاقيات ومعاهدات دولية أهمها مؤتمر طهران عام 1943 وقمة يالطا عام 1945، بين زعماء الاتحاد السوفياتي جوزف ستالين، وبريطانيا ونستون تشرشل، والولايات المتحدة فرانكلين روزفلت حيث رتبوا خريطة العالم أجمع قبل ان يغرقوا العالم نفسه بحرب باردة، سبقتها معاهدة إنشاء منظمة الأمم المتحدة.
أدت الحرب إلى عودة دول عديدة إلى الخريطة السياسية (بولندا وتشيكوسلوفاكيا)، ونشوء دول جديدة (إسرائيل منها) وتقسيم دول (ألمانيا خصوصاً) وزوال النظام الاستعماري برمته وانحسار نفوذ بريطانيا وبدرجة أكبر فرنسا، التي تعرضت لاحتلال مذلّ في الأشهر الأولى من الحرب العالمية الثانية. صارت الدولتان اللتان وقعتا اتفاقية سايكس–بيكو، تنتظران المعونة الأميركية وتخشيان الغضب السوفياتي وتنسحبان من المستعمرات القديمة بلا مقاومة.
لكن لا الاتفاقيات على المستوى الرئاسي ولا الحرب الباردة ولا كل الترتيبات بقيت على حالها. فرض الاتحاد السوفياتي إرادته على كل أوروبا الشرقية ونصف إلمانيا، فيما سارعت أميركا إلى حروب دموية قسمت شبه الجزيرة الكورية ودمرت فيتنام قبل ان تبدأ الاستثمار في الديكتاتوريات العسكرية في القارة الأميركية ومعظم دول العالم الثالث باسم نشر قيم الحرية وحقوق الإنسان. وما جرى بعد انتهاء الحرب الباردة وخصوصاً في أوروبا الشرقية لا يقل إثارة. استعادت ألمانيا وحدتها وانهار الستار الحديدي ومعه الحكم الشيوعي وتقسمت دول البلقان وحتى تشيكوسلوفاكيا، فيما أصبحت اليابان وألمانيا أقرب الحلفاء لأميركا وأبرز المنافسين الاقتصاديين لها في آن.
كل ذلك والتوقيت النخبوي العربي متوقف في العام 1916، كل حديث عن الكيانات السياسية يبدأ بسايكس–بيكو وكل حديث عن فلسطين يبدأ بوعد بلفور، وكل من يطرح سؤالاً عن موضع الإرادة العربية في ذلك يرمى بالخيانة أو في أحسن الحالات بالسذاجة. لم يمت في الوطن العربي كله في الحربين العالميتين الأولى والثانية أكثر ممن قضى في دولة أوروبية متوسطة الحجم، وأكبر معركة شهدها العرب كانت في صحراء العلمين، والأهم أن روسيا عندما تبلشفت وانسحبت من الحرب العالمية الأولى كشفت على الملأ تفاصيل اتفاقية سايكس–بيكو في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1917، أي قبل انتهاء الحرب بكثير، لكن النخب العربية لا تزال في معظمها تندهش من مفاجأة لم تكتب لها السرية حتى قبل المباشرة بها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، وفي كل مرة يأتي ذكر سايكس–بيكو هو: ما هو سر الصمود العجيب والحياة المديدة لاتفاقية وضعها دبلوماسيان من الدرجة الثانية، في عالم يتغير ويتقلب ويتطور ويتقدم بينما الكثير من نخبنا لا يزال يعلق كل المعضلات على مشجب اتفاقية عفا عليها الزمن، ومن هي القوى التي تذود عن هذه الإتفاقية إذا استثنيت الأنظمة العربية وخصوصاً التي تدعي الثورية والتقدمية؟.
Leave a Reply