صالح مهدي الأمين
لم يعد خافـيا على احد ان عالمنا الذي نعيش فـيه يزداد سوءاً وغرابة وتعقيداً كل يوم. فـي مطلع القرن الماضي حصلت حربان عالميتان سجل التاريخ الحديث انهما الاكثر فتكاً ودموية فـي تاريخ البشرية. وتكفـي هيروشيما ونكازاكي لتجسدا الوحشية الباردة للعالم الحديث الذي نعرفه اليوم.
لم تندلع أية حرب تعادل ضخامة الحرب العالمية الثانية، ولكن ما يحصل فـي العقدين الاخيرين فـي عالمنا وبشكل أخص منذ ما بعد أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ يجب الوقوف عنده والتأمل فـيه.
عندما كانت أنباء القتل والدمار والمجازر تصل الى الناس فـي الماضي، كان الامر مجرد خبر حدث منذ أيام أو حتى أسابيع ولا مجال لتغيره والتفاعل معه أو خلق حالة وعي جماعي للتأثير عليه.
أما فـي عالمنا اليوم بعد أن أصبحت العولمة أمراً واقعاً ملموساً لا لبس فـيه، وبعد أن أصبحنا فعلاً نعيش فـي «قرية عالمية»، ومع تطور وسائل الاتصال والبث المرئية والمسموعة والمكتوبة بشكل يجعل نيويورك تعلم بما حصل فـي بيروت قبل أن تستفـيق الأخيرة.
وبعد أن أصبح كل منا آلة بث وإستقبال ووكالة أنباء، وغدونا جميعاً مثل صحفـيين ومراسلين ميدانيين بعد ذلك كله لا يمكن أن ننظر إلى ما يحدث فـي عالمنا اليوم من نفس الزاوية التي نظر اليها أجدادنا منذ ٧٠ عاماً، أو حتى من نفس الزاوية التي كنا نحن ننظر اليها منذ ٢٠ عاماً. لم يعد بإمكاننا أن نجلس فـي مقاعد المتفرجين وكأن شيئاً لم يكن، بلا حول ولا قوة. قد غدا لكل منا حول وقوة، وأصبح الكلام فـيما إذا كانت لنا المشيئة فـي تجير ذلك الحول أو إستخدام تلك القوة لنصنع التغيير.
لم يعد عالمنا بحاجة إلى إنتظار البطل الخارق لينشر العدل والسلام ويفوز بقلب الحسناء كما فـي الافلام. اليوم نتحول جميعا إما ابطالاً أو مجرمين. عندما نستحصل جميعا على كم هائل من التقارير حول التعذيب والوحشية فـي سجون المخابرات المركزية الأميركية ونبقى ساكتين فنحن شركاء فـي هدم وسحق نفوس الآلاف من الرجال والنساء والأطفال المعذبين.
عندما نكتفـي بالشعارات حين يجوع ملايين البشر فـي أفريقيا وغيرها من بقاع الأرض بينما نتخم حتى نملَّ من الشره ونبطر حتى الثمالة، فلنعلم أننا أكلنا وشربنا ولبسنا ما لنا وما لقبيلة وأسر كاملة لا عهد لها بالشبع.
عندما يتحول شعب بأكمله إلى أهداف حية لصياد دميم سادي صهيوني فـي غزة فـيؤنبنا الضمير فنقلص قليلاً صور أنانيتنا وحفلاتنا واستعراضنا أمام الآخرين على الفايسبوك وغيره، ثم ترانا نعود بعد هنيهة إلى حب النفس وشهوة الظهور والتبجح، ألسنا جميعا شهوداً خرس وشياطين ذارفـين؟
فـي العالم كله، من أستراليا حتى كندا مروراً بالعالم العربي والإسلامي وأوروبا يتحول المسلمون كديانة وجماعة وإثنية وتاريخ وحضارة إلى «ممسحة» لكل ما يخطر على قلب بشر من مهملات. ينتهج مدعوا الاسلام و هم كثر تبني بشكل شامل كل معيب وتطبيقه. بدءاً بأبشع أنواع القتل والتنكيل والتشويه بشكل فاق ما قرأناه عن عصور الظلام فـي القرون الوسطى، مروراً ببربرية الاستغلال الجنسي للمرأة فـي عبودية وإذلال لقيمها البشرية. الى تدمير نفسية وسيكولوجية الاطفال وحرمانهم من برائتهم وأحلامهم، وصولاً الى إعلان العداء لكل ما هو جميل وتدمير التراث والتاريخ والفن والحضارة بشكل ممنهج.
كل ذلك ولا يزال هنالك فـي هذا العالم من الغربيين من يدافع عن الاسلام ويعلن أنه يفصل بين أفعال هؤلاء وبين القيم الحقيقية للمسلمين «المعتدلين» كما يحصل فـي استراليا والمانيا اليوم، وحتي هنا فـي أميركا عندما يقوم المجتمع بحملات عفوية للدفاع عن المسلمين ضد الأصوات التي تدعوا إلى حرقهم وإبعادهم ووضعهم فـي معتقلات جماعية. ترى ماذا كان المسلمون ليفعلوا لو أن طائفة أخرى كانت مكانهم،؟ سؤال برسم الجميع وليس معرض النقاش هنا.
لكن معرض البحث والنقاش هو: ما الذي نفعله نحن لنبيّن قيمنا الحقيقية كجماعة؟. وأنا لا أتحدث عن الاسلام كصوم وصلاة وعبادات وليس الكلام موجهاً الى المتدينين فقط مع انهم أكثر الناس المعنيين. الكلام عن الاسلام كهوية للشرق وحضارة للعرب وما يحمله من قيم إنسانية.
هل يستطيع أحد أن يرشدني إلى انجاز حضاري يمكن أن نشير إليه كنموذج لما قدمه الإسلام فـي العصر الحديث؟
هل يستطيع أحد أن يسمعني خطاباً إسلامياً حضارياً يخاطب العقل ويمد يداً لبناء الجسور بدل هدمها؟ لا يخلوا الأمر من أصوات خافتة هنا وهناك ونماذج متواضعة، ولكن السواد الأعظم ليس كذلك.
الكلام فـي هذا الموضوع ذو شجون وشؤون.
لكن فـي ما يخصنا نحن العرب المسلمين فـي أميركا وتحديدا فـي هذه الجالية هنالك الكثير من العمل والقليل من الوقت.
لا بد قبل بدء الكلام التأكيد على بعض الامور:
أولا: هذه الجالية لديها طاقات ضخمة ليست موجودة فـي الكثير من الاماكن حول العالم، وهذا امر يجب التأكيد عليه لكي نسكت الأصوات التي تستكين بحجة الضعف والعجز وقلة الحول والحيلة. الطاقات العلمية والفكرية والإبداعية أثبتت براعتها فـي كل المجالات بلا إستثناء.
ثانياً: هذه الجالية سخية فـي البذل حين تقدم
لها مشاريع للنهوض بأبنائها وخير دليل كم الاموال التي دفعت لبناء عدة مدارس ومراكز دينية ومؤسسات إجتماعية.
ثالثاً: إن مايحصل فـي الشرق يجب أن يكون حافزاً لنا لنصنع نموذجاً أفضل ومكاناً أرقى لأبنائنا، أليس هذا هو سبب هجرتنا، ألسنا نسعى لحياة أفضل ومعيشة كريمة؟
إن كل هذا الكلام يجب أن يدفعنا للتفكير بشكل جدي بالمستقبل الذي لا يبدو مشرقاً إذا بقيت الأمور على حالها. الحرب على داعش وأخواتها قد تستمر عشر سنين بحسب تقدير الحكومة الأميركية. والامور لن تنتظر إنجلاء صورة الرابح والخاسر فـيما الوضع هنا فـي هذه البلاد مفتوح على كل احتمال. منذ مدة تتصاعدة الاصوات المحملة بالكراهية للمسلمين فـي أميركا، وقد تتفاقم الامور كما يحصل فـي المانيا وأستراليا. ثم إن ما حصل ويحصل فـي فـيرغسون وغيرها من مدن حيث التظاهرات باتت تتعدى مسألة غضب شارع الى كونها حراكاً عاماً حول مسألة العنصرية والتميز فـي هذه البلاد. وحدة الخطاب والخطاب المقابل يدل على ان هذه البلاد ليست بمأمن من التغير.
آن الاوان لكي نطالب كأفراد جميعاً القيمين على مؤسساتنا ـ التي بنيت ولا تزال تدفع نفقاتها من أموالكم ـ أن يستمعوا لما نتطلع اليه، وأن يواكبوا ما يحتاجه شبابنا وشاباتنا. أن يحسنوا إدارة الاموال والتبرعات التي أئتمنوا عليها وأن يتبنوا سياسة شفافة فـي التعاطي مع أبناء الجالية بدل سياسة البيانات والاعلانات والمساجلات. يجب أن تصبح كل مؤسساتنا وعلى رأسها المراكز الدينية خلايا نحل تقدم مكانا للجميع ليصنعوا ذلك النموذج عن حضارتنا وقيمنا. مكاناً يستقبل طاقات الشباب وإبداعهم، فنونهم ومهاراتهم، يشجعهم وينمي حس الانتماء الى حضارة يفتخرون بها.
أن تشعر بأن لا مكان ولا شيء تنتمي اليه من أقبح ما يمكن أن يشعر به المرء، هو شعور باليتم الحضاري. وهذا شعور يمكن أن تلمسه لدى الكثيرين من ابناء الجيل الذي انتمي اليه. وهذا الجيل لن يستطيع الانتظار طويلاً قبل أن يبدأ بطرد تجار الهيكل.
Leave a Reply