محمد العزير
طبيعي أن يتحول وباء «كوفيد 19» الذي اقفل جل دول العالم، إلى ميدان خصب للنقاش والتحليل والنظريات والتعليقات، خصوصاً وأن العلامة الفارقة لهذا الفيروس المستجد، هي حجر الناس في بيوتهم وتمديد «ساعات الدوام» على وسائل التواصل الاجتماعي وراء شاشات حواسيبهم ولوحاتهم الإلكترونية وهواتفهم، يقرأون ويتابعون ويشاركون سيول التعليقات والأخبار المتدفقة من كل حدب وصوب. لم يسبق للعالم أن واجه حالة شبيهة منذ القرون الوسطى، بينما التواصل أيام «الموت الاسود» في القرن الرابع عشر في أوروبا كان يقتصر على الكلام المباشر والرسائل المخطوطة فقط.
وإذا كان ممكناً التجاوز عن الكثير من الأقاويل التي يتداولها العرب الأميركيون في سياق التعليق على الحالة الراهنة، واذا كان مفهوماً تراوح النقاشات بين الطب العربي والوصفات المنزلية ونظريات المؤامرة وتوقعات المستقبل، وتالياً، إذا كان بعض الشطط والانفعال والضيق، وما ينتج عنه من نزق وعنف لفظي وتنمر، يصل أحياناً إلى درجة التهديد والوعيد جائزاً إلى حد ما، فإن ما لا يجوز التغاضي عنه أو إهماله هو الخلط المضر، سواء كان عن قصد أو غير قصد، بين الصحة العامة وبين السياسة العامة.
لا يحتاج الموضوع إلى تمهيد ومقدمات أكثر. تبرز في المعمعة الإعلامية المواكبة للوباء أصوات صحفية وثقافية ونخبوية تتخذ من إجراءات الحجر والحظر التي تتخذها حكومة ولاية ميشيغن منصة مفتوحة للانتقاد والاستنكار والتهجم على حاكمة الولاية الديمقراطية غريتشن ويتمر، التي أظهرت كفاءة وشجاعة في قيادة الولاية بطريقة أدت إلى الحد بشكل كبير من عدد الإصابات والوفيات، من خلال اعتماد سياسة واضحة في العزل الاجتماعي ووضع الصحة العامة قبل أي اعتبار آخر. بالطبع، ليس المقصود بتلك الأصوات بعض المتسلقين والمتسلقات على منصات التواصل الاجتماعي وأثير الإذاعات المحلية، ولا المتسربلين بألقابٍ «مبهبطة» لا يصلحها الفوتوشوب والفلتر، ولا المتنطحين لمبارزة مع حكومة الولاية لم يتحدهم أحد إليها، وكأن ويتمر لا تنام قبل أن تعرف آخر مواقفهم.
صحيح أن البعض (من الصامتين) متضرر مالياً من بعض الإجراءات، وصحيح أن حجز أية حرية في أي مكان أمر غير مستحب على الأقل، لكن الصحيح أيضاً، كما تقول القاعدة الشرعية، الضرورات تبيح المحظورات، فلا حاكمة الولاية تهوى شلّ الدورة الاقتصادية، ولا الإجراءات الصحية تَرَفٌ يمكن التخلي عنه. لكن هناك بالتأكيد فارقاً بين طرفة تقال في مجلس خاص، أو نكتة لم ينجح صاحبها في كتمانها وبين المواقف العبثية التي تقلل من شأن الوقاية الصحية والإجراءات المحلية، والتماهي مع الدعوات الخبيثة، لا بل الاستعانة بمعلوماتها الملفقة وادعاءاتها الوهمية، لتسجيل موقف على طريقتي «التنمير» و«كسر العين» المهاجرتين معنا.
لماذا ميشيغن حصراً؟ وما الضرر في ذلك؟ من يتابع يعرف أن ميشيغن من الولايات غير المحسومة انتخابياً في سباق الرئاسة المقبل في تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام. ويعرف أيضاً أن ميشيغن ساهمت في إيصال الرئيس الأحمق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات. ويعرف أن فارق الأصوات –حينها– كان بالضبط 10,704 أصوات، وهو رقم يشكل نسبة صغيرة من أصوات العرب الأميركيين في الولاية.
لذلك، يسعى ترامب بشعبويته وفظاظته إلى تحريض الناس على حاكمة ميشيغن على أمل أن يكرر فوزه مرة أخرى بالولاية، عبر اختراق المجتمعات الأكثر تضرراً من سياساته، وعلى رأسها المجتمع العربي الأميركي الذي استهدفه سيد البيت الأبيض، وأهانه وحقره حتى من قبل أن يتولى الرئاسة. من ناقل القول إن لترامب مناصرين بين العرب الأميركيين، وخاصة المهاجرين من دول عربية يرفضون الهوية العربية الأميركية، وفي الحالتين هذا حقهم، أو على الأقل رأيهم.
كذلك هناك أثرياء عرب تهمهم ثرواتهم أكثر من هوياتهم، وهذا مفهوم لأنهم هاجروا أصلاً لأسباب اقتصاديًة، وليس بحثاً عن حرية الرأي… معظمهم مجرد أذناب لأنظمة طغاة في العالم العربي ولا تهمهم الحرية والديمقراطية قيد أنملة، مهما كانت ادعاءات من يمتثلون لأوامرهم المعادية لـ«الإمبريالية»، وكثير منهم يطمحون إلى صورة مع رئيس اهم دولة في العالم، وهم لا يفقهون مدى الإهانة التي الحقها ترامب بالرئاسة الأميركية وبأميركا على السواء.
المسألة ليست دعابة. لو كان تأثير أي عربي أميركي في الإعلام أو النفوذ (Influence) أو التواصل يقتصر على بضع عشرات من الأشخاص، سيكون الفارق مؤلماً، وسيكون الرئيس العنصري العدواني الذي يطالب علناً بمهاجرين من النروج والدول الاسكندنافية، رئيساً لولاية جديدة لن ينالنا منها سوى صورته مع المعمم محمد الحاج حسن (المتهم بسرقة الهواتف الخلوية في لبنان) أو جان عاقوري الذي لم يجد بعد وفاة أنطوان لحد من هو أشد الموارنة تعاملاً مع إسرائيل (دعونا من ذكر جماعة عون فهم حتى الآن في مرتبة قدسية). المسألة تبدو كمهزلة الآن. كيف لأول ديمقراطية دستورية في العالم أن تنتخب نصاباً رئيساً لها، المأساة أن نسمح كعرب أميركيين بأن يتحقق ذلك. لا للعبث… لا للنجومية المحلية المارقة… ولا للعابثين.
الواقع والمنطق يفترضان منا –على الأقل– التمييز بين دعوة ترامب لميليشيات ميشيغن للتظاهر الوقح بالسلاح لقمع الأقليات، ونحن منهم، وبين الهذر والعبث الخطيرين وما يحملانه من مصيبة إعادة انتخاب ترامب لولاية جديدة. وبالطبع لا ننسى المعادين للمرشح الديمقراطي جون بايدن بحجج ذات مغزى كموقفه من تزكية عضو المحكمة العليا كلارنس توماس، أو تعامله مع بعض السياسيين الذين يحبذون التفوق الأبيض.
السياسة ليست دائماً قائمة على المبدأ خصوصاً في أنظمة انتخابية دورية، وأي شخص في البيت الأبيض عام 2021 أفضل من الرئيس الأحمق الحالي.
Leave a Reply