وفيقة رمضان – «صدى الوطن»
منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين وبغداد ترزح تحت وطأة الصراع البارد بين واشنطن وطهران والارتدادات الناتجة عنه.
وما يعزز حجم تلك الارتدادات، هو النفوذ الذي يتمتع به كلا البلدين على الأراضي العراقية. ولا يخفى على أحد أن تقاطع المصالح بينهما جعلهما حريصين في كثير من الأوقات، على الابتعاد عن مساحات التناقض والاشتباك.
لكن المسار التصعيدي الذي سلكته إدارة ترامب تجاه إيران، والذي بلغ مستوى غير مسبوق من العقوبات، وضع العراق أمام مأزق صعب، فهو الذي لا يمكنه الاستغناء عن البلد الجار مع ما تربطه به من علاقات عميقة وحيوية على مختلف الصعد، ولا عن أميركا التي كانت «راعيته» منذ احتلالها له.
ثمة ميل لدى معظم المراقبين إلى الاعتقاد بأن العراق سيكون أول ساحة مواجهة محتملة «إذا ما وقعت» بين إيران وأميركا -وهو ما بات مستبعداً في المدى المنظور- إذ أن الدولتين لاتزالان بحاولان تفادي وقوع الحرب وتعلنان حرصهما الدائم على عدم الانجرار إليها، فيما يستمر تبادل إطلاق التهديدات… وها هي إيران تلوي ذراع واشنطن من خلال التلويح باستهداف قواتها ومصالحها بقسوة على أرض العراق الذي تعده طهران حديقتها الخلفية، لترد إدارة ترامب على التهديد بتهديد مماثل، تعي إيران خطورته في حال تنفيذه.
ومنذ إطاحة صدام حسين، ونذر المواجهة بين واشنطن وطهران تلوح في الأفق. تخبو حيناً وتشتد حيناً آخر. غياب رؤية وطنية واضحة وانغماس العراقيين في صراعاتهم الطائفية والمذهبية، منحا تلك المواجهة زخماً إضافياً.
الموقف العراقي
انعكاسات الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وإيران، لا يختلف اثنان على ثقل وطأتها على بلد مثل العراق، فهو الذي لطالما اعتمد بنحو كبير على جارته إيران في مجالات اقتصادية واسعة، ناهيك عن الارتباط السياسي والديني لشريحة كبيرة من مكونات الشعب مع البلد الجار، الذي يمكنه بدوره أن يستخدم هذا الارتباط أداة ضغط تخدم مصالحه، بدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة مع الأميركيين داخل العراق.
من خلال نظرة سريعة إلى مجريات الأمور، تطفو على السطح في الداخل العراقي توجهات ثلاثة، أحدها يتبنّى عرقلة الوجود العسكري الأميركي عبر مسارين: سياسي من خلال البرلمان أي عبر آلية تشريعية ترفض الوجود الأميركي، وعسكري يتمثل في التهديد بالمواجهة العسكرية في حال وقوع أي تصعيد عسكري ضد إيران.
التوجه الثاني يرى أن الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية ما زال مطلوباً، من باب التخوف من احتمال عودة تنظيم داعش إلى المنطقة التي كان يسيطر عليها قبل أن يُطرد منها مهزوماً.
أما التوجه الثالث والذي يمثل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر رأس حربته، فيعلن صراحة أنه ليس مع زجّ العراق في أتون الخلاف المستعر بين الدولتين المتخاصمتين، وجعله ساحة لتصفية حساباتهما، معتبراً أن تلك الحرب إن نشبت فستأكل الأخضر واليابس، وأن الموقف يستلزم وقفة جادة. وبالتالي، هناك شبه إجماع يسود الساحة العراقية على ضرورة عدم الدخول في سياسة المحاور -باستثناء موقف بعض حلفاء إيران الاستراتيجيين- وهذا ما سمعه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته العراق من نظيره ومن رئيس مجلس النواب، مع تأكيدهما أن بغداد ستلعب دوراً محورياً في تخفيف التوتر بين طهران وواشنطن وأنها لن تكون ضمن أي محور. وفي السياق عينه، كان لقاء ظريف بالرئيس العراقي برهم صالح ورئيس حكومته عادل عبد المهدي، حيث أكد بيان صادر عن رئاسة الجمهورية أن العراق يسعى إلى أن يكون نقطة التقاء بين الدول الشقيقة والصديقة في إشارة إلى كل من إيران والولايات المتحدة.
خاصرة رخوة
وفي وقت سابق من هذا الشهر زار الرئيس الإيراني حسن روحاني بغداد والتقى المسؤولين فيها، في خطوة تستهدف الدفع باتجاه تخفيف الضغط عن بلاده، وإبقاء العراق رئة لها تتنفس من خلالها ومنفذاً اقتصادياً إلى العالم بعد أن أمعنت أميركا في تنفيذ عقوباتها ضدها.
أما واشنطن التي لا تنفك تضغط في كل اتجاه، فقد أرسلت وزير خارجيتها إلى بغداد في زيارة غير معلنة، الهدف منها كان تحذير العراقيين مما قد يتعرض له الأميركيون من مخاطر متزايدة من قبل حلفاء إيران وفقاً لتعبير بومبيو نفسه، بالتزامن مع إرسال مجموعة من حاملات الطائرات والقاذفات الجوية، علماً أن واشنطن لديها نحو 5,200 جندي (الرقم المعلن) يتوزعون على ثماني قواعد داخل الأراضي العراقية، بعضها موجود في إقليم شمال العراق، والذي يُحتمل ألا تعترض حكومته على استخدامها من قبل الأميركيين ضد إيران، التي لم يفُتْها أن تؤكد تنبّهها لهذا الخطر الداهم عند حدودها عبر تصريحات كان قد أدلى بها قائد حرس الثورة الإيراني العميد حسين سلامي حذر فيها من أن أراضي شمال العراق كلها ستكون في مرمى الصواريخ الإيرانية وتحت رحمتها، في حال أقدمت حكومة الإقليم أو أي طرف آخر على الأرض على تقديم أي مساعدة لوجستية للأميركيين أو سمحت لهم باستخدام أراضي الإقليم منطلقاً لضرب مدن أو منشآت إيرانية.
تضيق الخيارات أمام بغداد، وهي بمنظار المصلحة الخالصة والملحّة، قررت الإمساك بالعصا من وسطها، كي لا تخسر الجار الشقيق والداعم ومصالحها الحيوية معه من جهة، وكي لا تخسر الحليف القوي الذي يكلّفها إغضابه أثماناً باهظاً ليست مضطرة إلى دفعها.
دور الوسيط
وبالنظر إلى تسلسل الأحداث الدراماتيكي في الآونة الأخيرة، بدءاً من استهداف أربع سفن تجارية بينها ثلاث ناقلات نفط قرب السواحل الإماراتية، إلى هجوم الحوثيين على خط نقل نفطي استراتيجي في السعودية بطائرات مسيرة، وصولاً إلى استهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء بصاروخ كاتيوشا وإجلاء الموظفين الأساسيين فيها على إثر معلومات استخبارية إسرائيلية كانت تحدثت عن أن البعثة الأميركية إضافة إلى قواعد عسكرية أخرى باتت هدفاً لعدد من الفصائل المرتبطة بإيران، وفي خضم هذا الجو المحموم، لا يكاد رئيس الوزراء العراقي يفوّت فرصة لتأكيد عدم انحياز بلاده إلى أي طرف في هذه الأزمة، ساعياً إلى ترك مسافة أمان بينه وبين البلدين المتخاصمين، في انتظار إشارة من هنا أو من هناك توحي بظهور بوادر حلحلة للأمور بين الجانبين. وقد بدأت معالم تلك الحلحلة تظهر تباعاً من خلال تصريحات المسؤولين المتلاحقة في البلدين ولا سيما من قبل ترامب وإدارته.
وفي إشارة عملية إلى الجنوح نحو خفض التوتر، دعا رئيس لجنة الأمن القومي الإيراني حشمة الله بيشة منذ عدة أيام الأميركيين إلى التفاوض بوساطة عراقية أو قطرية، مع بروز رغبة لدى عدد لا بأس به من الدول في القيام بدور الوسيط بين البلدين من بينها عُمان التي أوفدت بالفعل وزير خارجيتها إلى طهران، وروسيا والكويت وسويسرا واليابان، إلا أن العراق من بين المرشحين بقوة لتولّي هذه المهمة، لما يمثّله من جوار وعمق وأولوية حيوية لدى إيران، فضلاً عن أنه الأكثر تأثراً بارتدادات الصراع وانعكاساته على أرض الواقع.
هي فرصة تاريخية، يأمل رئيس الوزراء العراقي اقتناصها، بل عليه أن يفعل. فهل سيحسن استغلال علاقاته الاستراتيجية بالطرفين فينجح في وساطة تجنّب بلاده والمنطقة برمّتها حرباً قد نشهد بدايتها من دون أن يتمكن أحد من التنبؤ بكيفية نهايتها؟ سؤال برسم المقبل من الأيام، إلا إذا باغت الجميع تحول نوعي مفاجئ في مسار الصراع من صنع أيدٍ خفية تقتضي مصالحها انزلاق أميركا نحو حرب تشعل المنطقة، وتضع مستقبلها في مهب الريح.
Leave a Reply