الحرية هي أساس الدولة الديمقراطية
الفيلسوف أرسطو
العمائم : مراجع المواجع
المنطقة العربية مريضة، هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها إلاّ مكابر. الشعوب مظلومة من حكامها ومكلومة من نخبها التي ضرب أغلبها بالمبادئ عرض الحائط وباعوا كل شيء حتى «أهلهم واللّي خلّفوهم». النخب الفكرية باعت نفسها ولم تعصمها الافكار، لكن الطامة الكبرى أنّ كثيراً من علماء الدين الذين كان عليهم ان يعتصموا بحبل الله، قطعوا الحبل واعتصموا بدعاوى الفتنة والشيطان وجروا وراءهم جمهوراً من العامة ومزقوا شعوبهم طوائف تتناحر وتتقاتل وتدمر وتنتهك، ثم انبروا يتجادلون على الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات وفي المساجد وعلى مواقع الانترنت كل منهم يكفر ويسفه الآخر.
كان للعمائم هيبة وحرمة لأنها كانت تزرع الخير وتغيث الملهوف وتعمل على التآزر ولمّ الشمل، لكن تحول كثير منها الآن الى بوم وغربان، لا تسمع لها إلاّ نعيق فتاوي الفتنة الخرقاء. اختلط الحابل بالنابل وانتصب كثير من اصحاب العمائم من ضعاف النفوس من هذه الطائفة أو تلك للفتوى مع أنّ كثيرين منهم بغير علم غزير يخول له الإفتاء، وبعضهم أفرغ من فؤاد أم موسى، تسمع لهم جعجعة ولا ترى لهم طحنا.
العمامة أصبحت مهنة وتجارة مربحة، لذلك تزاحم على بابها الكثيرون، ولأنّ مَنَاط ربحها الفتوى خاصة السياسية منها تحلق حولها الكثير «وهات يا فتاوي». عمامة الفقهاء كانت رمزا للصدق والايثار واعمال البر فتحول الكثير منها الى رموز للجشع والانانية والقبلية والحزبية والمذهبية، وما يحدث في سوريا والعراق خاصة، شاهد على ذلك. لقد أصبح كثير من الفقهاء والمراجع شركاء في الظلم والمآسي والمواجع التي تعانيها الشعوب العربية. إنهم مراجع المواجع.
مشاريع قديمة: يا ما فـي الجراب يا حاوي
كانت هناك دوماً مشاريع لإعادة تركيب أو تقسيم المنطقة العربية قبل وبعد اتفاقيات سايكس بيكو، ولم تكن الطموحات الاستعمارية فقط وراء المشاريع تلك، فهناك أطراف اقليمية كانت لها طموحات أكبر ولم تكن راضية على التقسيم الحالي للمنطقة وكانت تريد بالمقابل ان يكون لها امتداد هنا او هناك. ففكرة ضم العراق الى مشروع دولة الجزيرة لم يكن مشروعا خارجياً بل كان احد طموحات حركة الضم التي قادها الشريف حسين ثم بعده آل سعود، كما أنّ مشروع المملكة الشريفية التي تمتد على الحجاز والاجزاء السنية من العراق والأردن والضفة الغربية هو محاولة لتجسيد بديل للدولة العربية الواحدة التي لم تر النور مع الشريف حسين.
تلى تلك المشاريع تصورات اخرى لما يجب أن تكون عليه المنطقة بدءاً بالشرق الأوسط الكبير الى مشروع الفوضى الخلاقة لإعادة تركيب المنطقة بما في ذلك العراق. كما يبدو أن مجلس التعاون الخليجي مشروع سعودي تعويضي لاعادة ضم دول الجزيرة بطريقة ناعمة بعدما فشلت مشاريع الضم بالقوة، لكن يبدو أنّ لعبة التوازنات الجديدة بالخليج ببروز الدور القطري قد تجعل اصحاب مشروع الجزيرة الكبرى يؤجلونه الى حين.
الحراك السني: الحق والباطل
قد لا نكون بعيدين عن الحقيقة اذا قلنا ان ما يجري في العراق الان هو نتيجة لهرولة اغلب قيادات الطيف السياسي العراقي نحو مشروع تقسيم الدولة العراقية بين الطوائف خلال فترة الاحتلال، ثم تقنين الطائفية عبر اقامة مؤسسات طائفية وشرعنتها. مَثَّل مشروع التطييف الذي تلته المحاصصة أو ما أطلقنا عليه «الديمقراكعكية» قنبلة موقوتة او مشروعا يحمل في طياته بذور تقسيم الدولة العراقية خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المحيط أو الجوار المناهض لما آلت اليه الامور بالعراق إضافة الى نظرة الجيران بعين الريبة لقيادة الشيعة لدولة العراق.
بعد السياسة الاستئصالية التي انتهجتها الحكومات العراقية الاخيرة ضد النظام السابق والتي تزامنت معها عدة تجاوزات في حق الكثير من المناطق السنية ممّا أحدث حالة من الاستياء ظلت خامدة لتطل برأسها في انتفاضة المناطق الغربية، بالأنبار والفلوجة والرمادي والموصل وغيرها من المناطق التي يقطنها العرب السنة بكثافة. بدأت الحركات الاحتجاجية في أواخر سنة 2012 بعد إصدار المالكي بطاقة قبض على وزير ماليته رافع العيساوي وهو من العرب السنة، بتهمة المساعدة على الارهاب، ما أوّله البعض بأنه استهداف له -كما للهاشمي من قبله- على أساس الخلفية المذهبية، ثم تفشت التحركات الاحتجاجية في المناطق السنية واصبحت تقليدا كل يوم الجمعة وأعطوها اسماءً مثل «جمعة العزة»، «الكرامة»، «الصمود» وغيرها من الأسماء كما أسست تنسيقيات ومجالس محلية ومركزية مما يوحي بأن الحراك تحول الى انتفاضة اكثر منها احتجاج معزول.
وقد ازدادت وتيرة التحركات السنية المناوئة لحكومة المالكي للأسباب التالية:
1- فشل نظام المالكي في حسم صراعه مع الاكراد وقبوله بشروطهم بعد تصعيد اللهجة ضدهم (طلع ونزل على مافيش).
2- موقعة الحويجة التي زادت في غضب السنة، خاصة بعد سقوط حوالي ثلاثة وعشرين ضحية واعتقال العشرات خلال عملية المداهمة التي قام بها الأمن العراقي لمنطقة الحويجة التي تقع في غرب كركوك حيث أكدت مصادر اخبارية مهاجمة الأمن العراقي لساحة الاعتصام بحجة البحث عن مطلوبين مما يعرف بـ«جيش النقشبندية» الأمر الذي جرّ معه اشتباكات مع قوات الأمن. وتصف الدوائر الامنية العراقية مجموعة «النقشبندية» بالمنظمة الإرهابية والمعادية للنظام وتقول انها تضم فلولاً من قيادات الجيش السابقين اضافة الى عديد المتطوعين العرب وغيرهم من الجنسيات الأخرى. وقد كانت لموقعة الحويجة تداعيات سياسية وأمنية خطيرة حيث تزايد منسوب الشحن الطائفي في بقية المناطق السنية
3- حالة التدهور التي يعرفها الجوار السوري ودفع بعض القوى الرجعية بالمنطقة نحو تفشي الصراع الطائفي.
4- مساندة أطراف مهمة كالتيار الصدري والأكراد، للحراك واعتبار مطالبه مشروعة وتقليل الصدر، على لسان الكثير من قيادات تياره، من الدور الخارجي في تأجيج الانتفاضة، وقد أدى مقتدى الصدر صلاة جمعة في ديسمبر في جامع عبد القادر الكيلاني وهو جامع للسنة ببغداد، كما لم يطعن تيار الحكيم في التحركات السنية واعرب عن تفهمه لها.
5- دور بعض الدول الخليجية في الدفع بالحراك السني ليخرج عن اهدافه المطالبة بالمساواة الى حراك ذي أهداف طائفية.
وحسب مراقبين فقد بدأ الحراك يعرف نبرات تصعيدية غير معهودة فهذا علي محيبس احد شيوخ السنة في الأنبار يتحدى الحكومة قائلا: «إن أردتم الجهاد فنحن جاهزون وإن أردتم المواجهة فنحن لها وإن أردتم الزحف إلى بغداد فنحن قادمون». ومقابل هذه اللهجة التصعيدية فقد عمل بعض المراجع الدينية السنية على تهدئة الامور حيث حث الفقيه عبدالملك السعدي (سني) على الحفاظ على سلمية الحراك لكنه نبه في المقابل الحكومة من مغبة استعمال القوة ضد المتظاهرين.
كما ذكرت مصادر اعلامية وجود مشروع تكوين قوة عسكرية في الأنبار تقدم فيها كل عشيرة مئة مقاتل لحماية المحافظة وحسب نفس المصادر فقد صرح شيخ مجلس شيوخ عشائر الفلوجة عبد الرحمن الزوبعي بالقول «نحن لا نرضى أن نعيش بصفة مواطن من الدرجة الثانية.. نحن طالبنا بهويتنا وعندما ترفض الحكومة لا يمكن اثبات الهوية إلا بالسلاح إن تطلب الأمر».
وكل هذه المؤشرات توحي بأنه إذا لم يقع احتواء الحراك السني عبر قنوات الحوار والتوافق والحفاظ عليه من اندساس اطراف اخرى ذات اجندات اقليمية وطائفية فإنه يتجه الى منزلق خطير قد يؤدي بالمنطقة الى حروب تأكل الأخضر واليابس ولن ينجو منها قاعد ولا راكب. وقد قدم قادة الحراك في المناطق السنية مجموعة مطالب اهمها:
أولاً: حل الحكومة الحالية وتكوين حكومة مصغرة مستقلة عن كل التيارات الى حين تعيين حكومة توافقية جديدة. ثانياً: اطلاق سراح الموقوفين في السجون السرية بدون محاكمة أو الذين انهوا فترة حبسهم ومازالوا مسجونين. ثالثاً: بناء دولة متوازنة تضم كل أبناء العراق على مبدأ لا غالب فيها ولا مغلوب. رابعاً: احترام الطائفة السنية في شخص رموزها وعدم التعرض للنساء واطلاق من هن في السجون. خامسا: تعديل قوانين الارهاب وخاصة مادة الادلة السرية التي تشرع للتجاوزات والانتهاكات. سادساً: الغاء قانون العدالة والمساءلة الذي تجاوزته الأمور. سابعاَ: تمتع المناطق السنية بنوع من الحكم الذاتي كما الشأن في كردستان.
المصير: من دولة القانون الى دولة الحق
ركز المالكي الذي يحكم العراق منذ ست سنوات على مبدأ سيادة القانون في الدولة العراقية، لكن مع وجاهة هذا التمشي فإنه مبدأ ناقص لأن القانون اذا لم يكن مدعما بمبدأ الحق يمكن ان يكون قانوناً جائراً، فالحرص على مصطلح القانون شكلا لا يمكن ان يعطي شرعية لأحد او يضفي الشرعية على أي نظام حكم، فالقانون يمكن ان يكون سيفا ذو حدين فقد يُشرّع به للديمقراطية وحقوق الإنسان كما قد يشرّع به للاستبداد.
وقد اعربت اطراف شيعية مهمة عن سخطها من السياسة التي ينتهجها المالكي الذي كان يعين شخصيات مقربة منه والذي ضم اضافة الى رئاسة الحكومة وزارتين سياديتين هما الدفاع والداخلية مما مكّنه من الإشراف على فرعي المخابرات المدنية والعسكرية، كما استطاع عبر شبكة من التعيينات من التأثير على جزء من القضاء. ويعتقد السنة انه تم استثناؤهم من قيادة الفروع المهمة للجيوش البرية والبحرية وخاصة القوات الجوية التي اقصوا منها.
ووفقا لمراقبين تعمل الاطراف التابعة لحكومة المالكية وفقا لقوانين اجتثاث البعث المعدل بقانون العدالة والمساءلة والذي حرم كثير من العراقيين السنة من حق العمل والسفر بشبهة البعثية كما زج في السجون بالكثير من العراقيين بشبهة الارهاب، والتي بمقتضاها تجاوزت الاجهزة الامنية قواعد حقوق الانسان، اضافة الى اختفاء عديد العراقيين في السجون السرية.
من المفترض ان تكون دولة العراق قد خرجت من سيطرة سلطة الفرد وسياسة الاقصاء الى دولة القانون والحق والتعددية والتنوع خاصة بعد ان جرب العراقيون ويلات الحروب. ليس امام العراقيين إلاّ طريقا واحدا للحفاظ على وحدتهم ولحمتهم وهو طريق التوافق والقبول بالآخر، وعلى الحكومة ومن يوالونها أن يتوقفوا عن الخوف غير المبرر من السنة والذي يتخذونه مسوغاً للهروب من الاستحقاقات الديمقراطية والتي كان من نتائجه اقصائهم للسنة عن بعض المناصب أو اتهامهم بالتبعية للخارج، وهو أمر لا يمكن سحبه على كل السنة وقد دحضته شهادة اطراف شيعية مؤثرة مثل الكتلة الصدرية التي أكدت على أحقية مطالب السنة وعلى تضخيم الحكومة لدور الخارج.
مطالب العدالة والمساواة واحترام الحقوق حق واشعال الفتنة باطل لذلك على السنة عدم السقوط في الفخاخ المنصوبة لهم في الداخل والخارج عبر التحريض الطائفي ليغرقوهم في آتون الحروب الطائفية التي لا تعني إلاّ شيئا واحدا وهو الانزلاق نحو تقسيم البلاد الى كانتونات صغيرة غير قادرة على حماية نفسها من المطامع المتربصة دائما ببلدان الذهب الأسود. نأمل أن يجنح كل العراقيين الى صوت العقل فالتوافق والتضامن أمامهم والفتنة الطائفية والتقسيم والحروب وراءهم.
Leave a Reply