وليد مرمر – لندن
قد يبدو للمراقب أن الضربات الأميركية الأخيرة على فصائل عراقية وسورية مقاومة إنما جاءت في سياق الرد على الهجمات الأخيرة التي نفذتها هذه الفصائل ضد التواجد الأميركي في العراق. وكانت قد نُسبت إلى هذه الفصائل التابعة للحشد الشعبي هجمات عدة على السفارة الأميركية وعلى مواقع ومصالح أميركية في مناطق متفرقة من العراق بما فيها إقليم كردستان.
وربما ذهب بعض المحللين إلى أن سبب هذ التصعيد هو تعثر المفاوضات الدولية مع إيران بشأن الملف النووي بعد 16 جولة من المفاوضات في العاصمة النمساوية فيينا وصولاً إلى جولة «القرارات الصعبة» المتوقع عقدها الشهر المقبل.
ومن دون التقليل من هذين السببين، إلا أنه وفي مقاربة مع الواقع اللوجستي والعسكري للوضعين العراقي والسوري فإنه من الواضع أن الحروب التي كانت تشنها قوات «البروكسي» ضد الشرعيتين العراقية والسورية قد شارفت على نهايتها، وأن المواجهة بين الأطراف الأصيلة (الاحتلال من جهة وفصائل المقاومة من جهة أخرى) في البلدين تبدو أنها قد أصبحت أمراً حتمياً.
فمع شبه القضاء على «داعش» وأخواتها في البلدين لم تعد لقوى التحالف أية ذريعة لعدم الانسحاب من البلدين سيما مع تزايد النقمة الشعبية على هذه القوات التي من الواضح أن في أولوية مخططاتها، إيجاد كانتونات أمر واقع ومناطق أقليات مستقلة إضافة للسيطرة على الموارد الطبيعية والحدود الدولية.
وفي هذه الأثناء تتزايد قوة ونفوذ الحشد الشعبي رغم محاولة واشنطن خرقه داخلياً عبر إيجاد حشد «مرجعي» مناوئ للحشد «الولائي». وظهر ذلك عبر الاستعراضات العسكرية وعبر الإعلان عن استحواذ «الحشد» على أسلحة متطورة وصواريخ دقيقة وطائرات مسيرة.
ولقد تم بالفعل استعمال المسَيَّرات لتنفيذ هجمات عدة على قوات الإحتلال في العراق. ولا شك أن هذا كان إيذاناً بتغيير قواعد الاشتباك بين الفريقين مما دفع بالقوات الأميركية إلى تنفيذ عملياتها الأخيرة والتي هدفت إلى توصيل رسالة مفادها أنها لن تسمح بتحول تواجد قواتها إلى هدف شبه يومي للمقاومة المسلحة.
وفي حين أن الوجود الأميركي قد أصبح أمراً واقعاً في سوريا حيث لم يتعرض هذا الوجود العسكري شرقي الفرات إلى أي عمليات تذكر، وذلك مرده إلى التوازنات الدولية الدقيقة والاتفاقات الأميركية الروسية، فإن الأمر قد يبدو مختلفاً في العراق حيث يبدو أن المشهد الميداني مفتوح على شتى الاحتمالات. وتنتشر قوات تابعة لـ«التحالف الدولي» شرقي نهر الفرات على امتداد ريفي الحسكة ودير الزور، وهو الشريط الحدودي مع الجانب العراقي، والذي يعد من أغنى المناطق السورية بالغاز والبترول.
ففي ثاني هجوم من نوعه منذ تسلم الرئيس بايدن منصبه شنت الولايات المتحدة الأحد الماضي غارات جوية استهدفت «منشآت تستخدمها فصائل المقاومة في مناطق حدودية بين سوريا والعراق» موقعة خمس ضحايا في صفوف هذه الفصائل وفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
وقال متحدث باسم «البنتاغون» إن الرئيس الأميركي جو بايدن أمر بهذه الضربات بعد استهداف جماعات تدعمها إيران مصالح أميركية في العراق.
وبدوره أعلن «الحشد الشعبي» العراقي، في بيان، الإثنين الماضي، عن مقتل عدد من مقاتليه في ضربات نفذتها الولايات المتحدة قال الحشد إنها «استهدفت مقرات اللواء الرابع عشر» على الحدود العراقية السورية.
ولكن هل تشكل المسيَّرات التي يستعملها الحشد تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة كما يدعي الخبراء؟
إن الرجوع بالذاكرة إلى حادثة واحدة يكفي لإعطاء الجواب الشافي على هذا التساؤل.
ففي نيسان (أبريل) الماضي، وفي عملية أمنية عسكرية معقدة، استُخدمت طائرة مسيّرة دقيقة إيرانية الصنع، يٌعتقد أنها تابعة للحشد الشعبي، محملة بالمتفجرات مسار الرحلات المدنية المتجهة إلى مطار أربيل للتمويه قبل أن تضرب عنبر وكالة المخابرات المركزية الأميركية في القاعدة الجوية الأميركية قرب مطار أربيل المدني. لقد صُدم كل من كان في القاعدة التي تضم حالياً أكبر تجمع للقوات الأميركية والبريطانية في العراق. كما وتم تدمير منشآت عسكرية ولكن من غير وقوع قتلى. وصرح قائد أميركي بعد العملية: «لقد كانوا يعلمون الهدف الذي كانوا يضربونه بالتأكيد، هذه العمليات تغير قواعد اللعبة». هذا فضلاً عن تعرض المصالح الأميركية لأكثر من 300 عملية باستخدام الصواريخ والعبوات الناسفة في الأشهر الـ18 الأخيرة. ويوم الخميس الماضي، دوت صافرات الإنذار داخل السفارة الأميركية في العاصمة العراقية بعد الاشتباه بوجود طائرة مسيرة فوقها.
وللتأكيد على أنها لا تزال قادرة على الحفاظ على التوازن السابق، استعانت الولايات المتحدة بحلف «الناتو» لمؤازرتها في ترسيخ نفوذها في العراق حيث أعلن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، وبعد لقائه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بروكسل، الخميس الماضي، أن الحلف سيوسع وجوده في العراق لمواجهة التهديدات الأمنية ملتزماً بزيادة عدد قواته ثمانية أضعاف أي إلى 4000 جندي قابلة للزيادة لاحقاً وذلك «لمواجهة فلول الإرهابيين».
من جهته، أكد الكاظمي على «أهمية تطوير العلاقات مع الناتو لتحقيق الاستقرار في المنطقة وجعلها آمنة مشدداً على ضرورة التعاون معه في دعم قدرات القوات العراقية والمؤسسات الأمنية».
وليت الكاظمي أخبرنا كيف استطاع أن يوسّع حدود العراق لجعله محاذياً لشمال الأطلسي؟ وهل نسّق الكاظمي خطوة «انضمامه» المسرحية غير المعلنة إلى «الناتو» مع جاره الإيراني الذي قد يعتبر وجود الحلف الغربي على حدوده تهديداً لأمنه القومي؟
من جهتها قالت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض جين ساكي، الاثنين الماضي، إن المنطق كان بسيطاً: «الهجمات ضد قواتنا يجب أن تتوقف، ولهذا السبب أمر الرئيس بالعملية الليلة الماضية، دفاعاً عن النفس عن أفرادنا»، مضيفة «أن حلفاء إيران قد شنوا خمس هجمات بطائرات مسيرة على القوات الأميركية منذ أبريل الماضي، وقد حان الوقت لوضع حد لذلك».
وعن الضربات الأميركية الأخيرة أيضا صرح الخبير في معهد الشرق الأوسط، سيرغي بالماسوف، أنه «لا يمكن حل المشكلة بتبادل الضربات، والجيش الأميركي يعرف ذلك جيداً. وبذلك فإن هذه الضربة أقرب إلى أن تكون سياسية. وهي لا تستهدف إيران أو مصالحها في المنطقة، إنما هي من أجل إرضاء السعوديين وجزئياً لتبرير وجود الأميركيين، فبالنسبة لهم إنه لأمر مذل أن تسمح إيران لنفسها بالرد على ضرباتهم».
ولدى سؤاله عما إذا كانت ستتفاقم الأوضاع في المنطقة؟ أجاب «إن الأميركيين خلقوا مشكلة لأنفسهم بتدمير العراق حيث كانت هناك نخبة سنية تحكمه. والآن تحاول إيران التقاط كل هذه الجماعات الشيعية، بما في ذلك تلك التي لم تكن دائماً موالية لها. وسوف نرى كم ستنجح في ذلك. حتى الآن، تسير العملية ببطء ولكن بثبات. فإيران، على الرغم من كل العقوبات لا تُظهر فقط القدرة على توجيه ضربات، إنما والدفاع عن مصالحها في مواجهة كل الضغوط».
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply