كان ثمة مقولة تنضح بالشماتة والتحقير أطلقتها العقول الصهيونية التي دأبت منذ أكثر من قرن من الزمان على الحط من شأن العربي وإدراجه في أدنى مراتب التصنيف البشري، مفادها “أن العربي الجيد هو العربي الميت”.
والواقع أن هذه المقولة تضافرت على تكريسها تلك العقول الصهيونية والاستعمارية الخبيثة مع نخب الحكم العربية التي صعدت إلى السلطة في حقبة التحرر التي تلت تراخي القبضة الاستعمارية الأوروبية على شعوب المنطقة العربية بعد الحرب الكونية الثانية وكسرت حدة ذلك الطوق الاستعماري، الذي كان يغل التطلعات العربية نحو التقدم، والتخلص من آثار الإرث الاستعماري العثماني الممتد لأربعة قرون، بكل صنوف التخلف والجهل والعبودية التي استبدت بحياة الشعوب في تلك الحقبة.
ففي بلد مثل مصر يتميز بعراقة تاريخه وقدم دولته وحيوية شعبه على مر التاريخ، استطاع تحالف طغم الاستبداد والقهر مع حيتان المال وغيلان الاحتكار أن يطوع النخب في هذا البلد على مدى أكثر من 30 سنة إلى درجة بلغت حد “الإقناع” بأن “أبو الهول يثور أولا ثم يثور المصريون!”.
تركت هذه الحقبة التي عاشها المجتمع المصري ومعه شعوب عربية عديدة الانطباع بأن التغيير بات خيارا يائسا وأن العبودية هي قدر لهذه الشعوب لا إمكان لتغييره.
لكن “ثورة الصبار” المصرية التي أطلقها الشباب قلبت هذا الواقع الذي كان يعتقد أنه ميؤوس منه فإذا بهذه “النخبة الجديدة” من الشباب العربي تهز أركان الظلم والطغيان لأقوى نظام عربي، وإذا بعاصفة التغيير تهب مرة واحدة، وتسقط هذا النظام في فترة زمنية قياسية وتعيد إلى العربي وجها وروحا جديدين كان الظن أنهما قد غابا إلى الأبد.
لقد قدمت ثورة الشباب المصرية، وقبلها التونسية نموذجا جديدا عن جيل عربي شب عن طوق الخنوع والاستكانة أمام جبروت أدوات السلطات الحاكمة بكل ما تختزنه من وحشية وتسلط. وقدمت هذه الثورة نخبة جديدة على أنقاض النخبة التقليدية التي أفلست واستقالت من دورها في قيادة الشعوب نحو التطور ومواكبة المجتمعات الحية في تطلعاتها وطموحاتها.
وهذه الثورة بكل معانيها وقيمها ونقاء أصحابها ستضع بين يدي علماء اجتماع الثورات وحركات التغيير مادة غنية وإضافة نوعية إلى قاموس التجارب الانسانية، وسيتوقف أمام دلالاتها طويلاً خبراء علم السياسة والاجتماع وعلم الانسان، لفرادة نموذجها ورقي سلوكها.
ومن الملفت، إذا تابع المراقب أوضاع الشارع المصري بعد سقوط النظام، أن مرحلة ما بعد حسني مبارك لم تتوقف عند محطات الشماتة ومهرجانات الخطب وتضخيم الأدوار، بل تستكمل يوميا بفعل حضاري تقدم مجموعات الشباب والشابات نموذجاً عنه في شوارع القاهرة وهي تعمل على تجميل ساحاتها ومحو آثار العنف الذي خلفته أجهزة النظام السابق في تعاطيها مع الثوار.
والمبهر حقا أن هؤلاء الشباب بتجربتهم الثورية الفتية يظهرون قدرا مذهلا من الاحساس بالمسؤولية والوعي لدورهم في نقل بلدهم من عهد الاستبداد الى عهد من الديمقراطية، بكل إصرار وهدوء، كأنهم يقرأون في كتاب واحد، في البعد عن الغوغائية والديماغوجية السياسية وإظهار تواضع أسطوري أمام ما حققته قبضاتهم وحناجرهم أمام نظام تسلح بكل أدوات القمع وطاقات التسلط والاستبداد على مدى عقود، لكنها جميعها لم تصمد سوى أسابيع قليلة أمام إرادة الثائرين وعزمهم على تحقيق نصر نهائي على سياسة الاستلاب والحرمان والقهر مهما بلغت التضحيات.
إنها الثورة التي أسست لمفهوم جديد في إرادة التغيير، يجمع بين الخبز والكرامة. وبين فرصة العمل والحرية. وهاهي بلدان العرب من محيطها إلى الخليج ومن مشرقها إلى مغربها ترهص بإرادة التغيير والرفض لأنظمة القهر والاستبداد التي مارست دور الوكيل للاستعمار ولمصالحه، ونهبت ثروات شعوبها عبر ذلك الحلف غير المقدس بين الحكام والشركات المتغولة التي باعت القطاعات الانتاجية لشعوبها بأبخس الأثمان إلى ذوي الحظوة من رجال الأعمال، قبل أن تدخلهم إلى مراكز السلطة وتقدم لهم الوزارات ومقاعد المجالس النيابية تجاوزا لإرادة شعوبها وتزويرا لخياراتهم.
لقد جدد الإنسان العربي، في مطلع العشر الأول من القرن الواحد والعشرين معاني الثورة، وهزم نظريات موت الأمم واستقالتها من صناعة التاريخ، وشرع في هدم هياكل الاستبداد على رؤوس كهنة السياسة بأبسط أدوات الاحتجاج وأرقاها، وبأقل الأثمان وفي غياب أية “نخب” تقليدية أو اعتناق أية عقائد أيديولوجية موجهة لحركته، بكل ما فيها من أبعاد ثورية مبسطة ورؤى تغييرية خلو من تعقيدات التنظير الفلسفي للثورات، بمفهومها التقليدي.
لقد أعادت ثورتا تونس ومصر أمة العرب إلى التاريخ وحطمتا أصنام الحكم في هذين البلدين العربيين لتمهدا الطريق أمام إسقاط كل الأصنام التي تحتل نفوس الشعوب، وأعادتا إحساس الإنسان العربي بإنسانيته التي حولها الطغاة إلى شبه حطام على مدى قرن بأكمله.
إنه التأسيس لعصر يكون فيه الإنسان العربي سيدا لا عبدا عند حاكم. إنها العودة الى التاريخ الذي أخرجوا منه، لكن بأسلوب انحنى العالم “المتحضر” بأجمعه أمام عظمته ورقيه.
عاد العرب الى التاريخ من أوسع أبوابه وأكثرها اعتزازا وثقة بالنفس، مسفهين كل النظريات والأفكار العنصرية والشوفينية التي زعمت أن العرب أدنى قدرة وأقل إرادة من باقي الشعوب ولا يُحكمون إلا بالقسوة والاستبداد.
لم يعد العرب، بعد ثورتي تونس ومصر المظفرتين بحاجة الى استنساخ ثورات الشعوب الأخرى أو نقلها، بل إن شعوب الأرض قاطبة ستتعلم أمثولة من هاتين الثورتين واللتين ستصيران ملهمتين لكل شعب يبحث عن خلاص من استبداد ويتوق الى تحرر من ظلم.
لقد انتهى عصر الافلاس العربي واستهل عصر الابداع على أيدي النخبة الجديدة من جيل الثوار الذي لن تستطيع أية طغمة حاكمة بعد اليوم تطويعه أو إخماد جذوة تمرده على واقع الاستبداد والقهر الذي سيطر طويلا قبل أن يؤذن بالزوال.
وصار بمقدورنا أن نقول الآن، وبكل اعتزاز “إن العربي الجيد هو العربي الحي” ونحيل كل مشكك وأفاك الى تينك الثورتين المجيدتين في تونس ومصر اللتين أعادتانا إلى أمجاد غابرة أخطأ الظن أنها لن تعود.
ملاحظة: سمعت في الأيام الأخيرة حديثا منسوبا الى مصادر ثقة يقول إن العقيد الليبي معمر القذافي هو من العشرة المبشرين بجدة!
Leave a Reply