أصحاب الأعمال العرب الأميركيون فخورون بانهم كانوا أصدقاء ديترويت وقت الضيق وببقائهم فـي المدينة بعدما تخلَّى عنها الآخرون، فتجاوزوا السنوات العجاف الخانقة متمسكين بالعيش فـي المدينة رغم تدنيها ووضعها السيِّء، لذلك هم يعتبرون اليوم انهم يستحقون أن يكونوا جزءاً من مستقبلها ونهضتها من أزمتها التعثرية.
وفـي حين بدأ النفوذ العربي لتوِّه يتوسع بالفعل خارج نطاق المتاجر الصغيرة المملوكة للعرب الأميركيين، تبقى بعض الغيوم العنصرية وسوء الفهم العالقة بين العرب والسود فـي المدينة بحاجة للمعالجة.
رئيس البلدية مايك داغن عيّن مؤخراً ثلاثة مسؤولين من العرب الأميركيين لقيادة ادارات الصحة العامة وشؤون الهجرة وخدمات الناخبين. ويلخص هؤلاء المسؤولون العرب دورهم فـي هذه المواقع القيادية بأنه لخدمة المجتمع بأكمله والمساعدة على تهدئة بعض التوترات بين الجماعات العرقية.
ويشكل الأميركيون الأفارقة أكثر من 80 بالمئة من سكان المدينة. وفـي عام 1967، هب الفقراء من السكان السود باحتجاجات عنفية ضد الشرطة وعدم المساواة والتمثيل غير العادل. وقد غيرت أحداث الشغب تلك وجه المدينة بشكل جذري لعقود قادمة. ولكن اذا كانت الاضطرابات فـي نهاية المطاف قد مكنت الأميركيين من أصل أفريقي من الوصول إلى السلطة فـي المدينة، الا انها ساهمت فـي نفس الوقت فـي نزوح السكان البيض منها.
وبعد اشهار إفلاس البلدية عام 2014، بدأت ديترويت فصلاً آخر مع العرب الأميركيين الذين يسعون لأن يكونوا شركاء فـي هذا التغيير. ولكن مع تنامي الوجود العربي (التجاري خاصة)، ناشد الدعاة والمسؤولون أصحاب الأعمال الصغيرة إصلاح علاقتهم مع مواطنيهم فـي ديترويت.
من أسواق «إيسترن ماركت» إلى البلدية
يقول مسؤولون ونشطاء ان المهاجرين يمكن ان يلعبوا دوراً رئيسياً فـي إعادة سكنى المدينة وإحياء ديترويت.
فـيروز سعد هي ابنة مهاجرين لبنانيين. والدها يمتلك محلاً فـي أسواق «ايسترن ماركت» منذ أربعة عقود، وكمديرة جديدة لشؤون المهاجرين تساعد سعد على تعزيز عملية دمج القادمين الجدد فـي ديترويت. وشرحت سعد ان الجاليات الحالية المهاجرة قامت بعمل عظيم من خلال تأسيس نفسها والمساهمة فـي رفعة المدينة.
وأضافت «لكن أعتقد أن هناك دائماً مجالاً للقيام بعمل أفضل. من هنا يكمن السبب فـي أنه من المهم أن يكون لدينا مكتب من هذا القبيل لبناء تلك العلاقات».
وعلى الرغم من الخطاب المعادي للمهاجرين على المستوى الوطني وفـي بعض المجتمعات المحلية المحيطة بها، أفادت سعد «ن الموقف فـي المدينة هو موقف الترحيب تجاه السكان» و«القيادة البلدية تساعد فـي تخفـيف وطأة توطين ودمج الديترويتيين الجدد» كما ويهدف مكتبها لتعزيز العلاقات بين الجماعات المختلفة بهدف زيادة التعاون.
لا علاقة للأمر بالسلطة
الدكتور عبد السيد، مدير دائرة الصحة العامة فـي بلدية ديترويت، يشعر بالمسؤولية تجاه مناهضة نقص المساواة العرقية والاقتصادية فـي مجال عمله، ويجد فـي المدينة بيئة خصبة لمثل هذه الدعوة. لكن فـي بعض الأحيان، تعترضه تساؤلات تحدوها العنصرية عن أصله وما إذا كانت عائلته تمتلك محطة وقود.
وفـي حديث مع «صدى الوطن»، ذكر السيِّد «أنا من ديترويت وكعربي أميركي، هناك دائماً سؤال يُطرَح علي هو: من أين أنت؟» بالنسبة لي الجواب على هذا السؤال كان دائماً «ديترويت موطني».
وأكد السيد، وهو من أصل مصري، إن سكان ديترويت يستحقون مستقبلاً أفضل «إنهم جيراني… إنهم شعبي وأنا أعتبرها مسؤولية كبيرة وشرف وامتياز لي لأكون قادراً على الدفاع عن حقوقهم».
الدكتور السيد (٣١ عاماً) يشرف على جميع جوانب الصحة العامة فـي المدينة. ويتضمن ذلك تفتيش المطاعم والحماية ضد انتشار المرض وتوفـير خدمات الرعاية الصحية، مثل التطعيم. وأعرب السيِّد عن شعوره بالغبطة والجزع معاً عندما عرضت عليه هذه الوظيفة. وكان وقتها يقيم فـي مدينة نيويورك لكنه ترك «التفاحة الكبيرة» ليستلم منصبه فـي ديترويت، وبقيت زوجته تعيش هناك.
«لم يكن السبب المال او المكانة والهيبة أو السلطة» أكد السيِّد وتابع «كل شيء متعلق بالفرصة لتحقيق المسؤولية. إنها مسؤولية أخذتها على عاتقي فـي اليوم الذي قررت فـيه أنني أريد أن أصبح طبيباً، واليوم الذي قررت فـيه أنني مهتم بمساعدة الناس للحصول على أفضل حياة ممكنة».
ولكن مدير دائرة الصحة العامة يعرف أن مهمته لن تكون سهلة، حيث استدرك انه يشهد تطورات كبيرة تتكشف فـي ديترويت. وأضاف «أن داغن وموظفي ادارته يريدون أن يروا تحسينات فـي كل مكان فـي المدينة وخاصة فـي الأحياء. وواحدة من الحقائق العظيمة حول الصحة العامة هو أننا فـي وضع يمكننا من التأكد أن ديترويت تنمو وتتحسن نحو الأفضل للجميع».
مسؤولية الخدمة
وأبدى السيد اعتزازه بأصله العربي المصري، لكنه «يؤمن بهذا البلد». ويرى أنه «لشرف عظيم العمل جنباً إلى جنب مع الأميركيين الأفارقة، الذين عانوا أكثر من غيرهم فـي البلاد من التمييز الفاضح وعدم المساواة. أنا إنسان أولاً وقبل كل شيء، وأميركي ثانياً. وفـي الأساس، كبشر وكأميركيين، لدينا مسؤولية لحقوق المواطنين. هذه هي المسؤولية الملقاة عليّ كل يوم».
وانتقد السيد بعض أصحاب الأعمال العرب الأميركيين فـي ديترويت، قائلاً إنَّ بعضهم لم يكونوا مواطنين صالحين و«إن الطريقة التي يزاول فـيها بعض ملاكي محلات بيع الخمور ومحطات البنزين العرب الاميركيين، أعمالهم التجارية لا تتفق مع القيم العربية ولا الأميركية. وهناك عدد منهم لا يتعامل مع المجتمع حوله باحترام وكرامة. ولعل جزءاً من وجودي هنا هو القول: عددنا كبير ولسنا مجموعة واحدة من العرب الأميركيين. وليس كل واحد منا يملك محلات خمور تجارية تساهم فـي العلل الاجتماعية فـي الأحياء».
ودعا الدكتور السيد، العرب الأميركيين لإعادة النظر فـي مسؤولياتهم تجاه المجتمع الأوسع. وأردف «كما ناضل العرب المحليون ضد العنصرية التي تستهدفهم، هم اليوم بحاجة إلى معالجة التعصب فـي مجتمعاتهم وإذا كنا نؤمن بأن كل الناس سواسية، علينا أنْ نعامل الجميع على قدم المساواة ولا ينبغي علينا إقصاء أحد من المجتمعات».
وحث السيد أصحاب الأعمال الصغيرة على المشاركة فـي إحياء ديترويت «لا السعي فقط وراء تحقيق الربح. وفـي بعض الأحيان من السهل بالنسبة لنا أن نعيش خارج ديترويت، ثم نأتي (إلى ديترويت)، ونجلس وراء زجاج مضاد للرصاص، ونقوم بمعاملة الناس بطريقة سيئة، ونبيع لهم المنتجات التي تضر بهم ثم نقول نحن مجرد رجال اعمال. الامر ليس بهذه البساطة. نحن جزء من المجتمع. لدينا فرصة لزرع أنفسنا فـي نسيج هذا المجتمع». واستطرد «لكن العديد من سكان ديترويت من العرب هم على الجانب الصحيح من هذا النقاش».
ورداً على سؤال حول مواقف بعض أصحاب الأعمال، الذين يشعرون بأنهم ضحايا التعصب ضد العرب والجريمة فـي ديترويت، أوضح السيد «ان جو الظلم المخيِّم يضر بالجميع. ويمكن للعرب الأميركيين تغيير سلوكهم لمعالجة هذا الوضع القائم وتغييره. والسؤال هو كيف يمكن معالجة مناخ التمييز، وما هو دورنا فـي مناخ التمييز هذا؟ ذلك انه فـي اللحظة التي تشير فـيها بأصابع الاتهام للغير وتقول أنا الضحية هنا، ستجد ثلاثة آخرين يشيرون بدورهم إليك بنفس التهمة».
ورددت النائبة السابقة فـي كونغرس ميشيغن رشيدة طليب، التي مثلت جنوب غرب ديترويت كلام الدكتور عبد السيد حيال مسؤولية الشركات الصغيرة تجاه المجتمع الأوسع. وقالت «ان أول لقاء لمعظم الافارقة الأميركيين مع العرب الأميركيين يكون عبر صندوق المال فـي المحل، وعندما تكون العلاقة غير إيجابية هناك، فإنها تنعكس سلبياً على كل الأميركيين العرب».
وأضافت طليب، وهي أميركية فلسطينية ولدت ونشأت فـي ديترويت، أنها شهدت شخصياً عدم احترام بعض عمال المحلات للزبائن وإهانتهم باللغة العربية.
واستطردت «هذا شيء لم نكن قادرين على التعامل معه. ويمكننا أن نقول للناس أنه ليس كل العرب الأميركيين هم كذلك، ولكن فـي نهاية المطاف تلك هي التجارب التي يواجهها الكثير من جيراني الذين هم من الافارقة الأميركيين».
ومضت النائبة السابقة تقول إن بعض العرب الأميركيين المحليين يغذون النظرة السلبية ضد الافارقة الأميركيين ويجردونهم من إنسانيتهم «لأن هذا ما علمه المجتمع الأميركي للناس». وحثت الشركات «على القيام بتقديم التدريب الثقافـي حول الحساسية العرقية لموظفـيها تجاه مجتمع الافارقة الأميركيين، بنفس الطريقة التي يطلب فـيها العرب الأميركيون التدريب الثقافـي لموظفـي إنفاذ القانون. ولعل تمثيل العرب فـي الحكومات المحلية يمكن أن يساعد فـي إصلاح بعض هذه القضايا وكونهم فـي نفس غرفة اتخاذ القرارات، هو بطبيعة الحال، جيد».
وأكدت طليب أن مديرة خدمات الناخبين، ملاك بيضون، جنباً إلى جنب مع الدكتور السيد وسعد، يمكن أن نسهم فـي عكس المفاهيم النمطية حول سكان ديترويت العرب الأميركيين «لأن هؤلاء المسؤولين المعينين من قبل رئيس البلدية يحبون المدينة. وطالما لديهم هذا الالتزام والاندفاع فإنهم سينتجون بشكل جيد».
واستدركت «أن على السكان العرب تجنب عزل أنفسهم وذلك من خلال التفاعل مع محيطهم». ووجهت طليب تنويهاً يشير لاضطرابات عام 1967 مسميةً إياها بأنها «انتفاضة فتحت الباب أمام الأميركيين الأفارقة والمجموعات العرقية الأخرى ليكونوا جزءا من حكومة المدينة. لدى سماعنا قصصاً من بعض كبار السن وحتى من والدي، كانت المدينة محكومة فـي الغالب من قبل السكان البيض، وكانت قوة الشرطة مكونة فـي الغالب من القوقازيين فقط، والناس الذين كانوا فـي موقع اتخاذ القرارات لم يعكسوا النسيج الاجتماعي».
ووصفت القيادة الافريقية الأميركية الحالية فـي المدينة بأنها «هائلة ولكن العلاقات العرقية فـي المنطقة ليست مثالية اليوم، بدليل تصريحات محافظ مقاطعة أوكلاند أل بروكس باترسون، الذي قال لمجلة «نيويوركر» عام 2014 إنه كان قد تنبأ منذ فترة طويلة ان ديترويت سوف تصبح معسكراً مسيجاً (يُذكَر ان باترسون ادعى فـي وقت لاحق ان المراسل نسب له هذا القول)
تطلعات رجال الأعمال
كان النفوذ العربي فـي ديترويت فـي العقود الماضية يتمثَّل بالتجارة الحرة، وذلك قبل وقت طويل من انخراط الجالية فـي عالم السياسة. وقال ناصر بيضون، المدير السابق لغرفة التجارة العربية الأميركية والذي يملك محطات وقود فـي ديترويت، كان العرب الأميركيون جزءا من اقتصاد المدينة منذ مطلع القرن العشرين.
واضاف «كانت بدايات العرب، العمل كأصحاب محلات بقالة وباعة متجولين ثم تطوروا. وعندما كانت المدينة فـي طور التدهور، لم تجد إلا اصحاب المحطات ومحلات بيع الخمور ومحلات البقالة من العرب الاميركيين والكلدان الذين جاؤوا الى المدينة وأنشأوا محلات تجارية ومحطات وقود فـي وقتٍ تخلَّى فـيه الجميع عن ديترويت».
وأردف «أن رجال الأعمال العرب يتداولون استثمارات جديدة، بما فـي ذلك العقارات والترفـيه فـي وقت تعود فـيه المدينة وتتعافى. لقد أضحينا جزءاً لا يتجزأ من المدينة».
واعترف بيضون بالتحديات بين الشركات والزبائن، لكنه قال ان «الأمور تسير فـي الاتجاه الصحيح. لا تزال هناك قضايا، وكلا الجانبان مسؤولان، ولكن العلاقة اليوم أفضل بكثير حيث أصبح عمال المحلات أكثر تفهماً واحتراماً، والحوار بين دعاة الأعمال وقادة الجالية فـي ديترويت يساهم فـي الحلول. وعندما تستثمر فـي مجال الأعمال التجارية الخاصة بك، فانك تستثمر فـي المجتمع ايضاً».
وقال موسى بزي، الذي يملك محطات الغاز وعقارات تجارية فـي ديترويت ان العرب الأميركيين قد لعبوا دوراً هاماً فـي المدينة منذ عام 1960. وأضاف «الجميع هجروا ديترويت – شركات كبيرة، وسلسلة تجارية وشركات صغيرة، ولكننا بقينا». وأضاف لـ«صدى الوطن» «نحن صمدنا بوجه العاصفة.. والسكان والمسؤولون فـي المدينة يدركون الآن نحن هنا لنبقى لأمد طويل».
ويزاول بزي الأعمال التجارية فـي ديترويت منذ ٣٥ عاماً، وقال انه لم تعترضه مشكلة كبيرة وقال «لقد اخترت أن أكون فـي مدينة ديترويت. أحب ذلك وأشعر براحة العمل هنا. إن الأميركيين الأفارقة يفهمون مدى التعصب الذي واجه العرب الأميركيين والمسلمين بعد هجمات ١١ أيلول (سبتمبر) لأنهم ظهير لنا, ومفتاح النجاح فـي ديترويت هو الصبر والاحترام المتبادل».
حول سلسلة التقارير الصحفية المشتركة
خمس صحف إثنية يُقدر حجم توزيعها بـ١٢٠ ألف نسخة أسبوعياً -وهي «لاتينو برس» و«ميشيغن ستيزين» و«جويش نيوز» و«ميشيغن كوريان ويكلي» و«صدى الوطن»- تشكل مجموعة «نيو ميشيغن ميديا»، وتشترك فـي «مشروع ديترويت للتعاون الإعلامي» (دي جاي سي) الذي يقام يرعاية «مؤسسة جون س. وجيمس ل. نايت»، و«مبادرة التقرير الصحافـي النهضوي فـي ميشيغن» و«مؤسسة فورد». ويهدف مشروع «دي جاي سي» الى تغطية أخبار ديترويت بعد الإفلاس وسبل نهضتها، عبر سلسلة تقارير إعلامية مشتركة. وتنشر كل تقارير هذه السلسلة فـي جميع الصحف المنضوية تحت «نيو ميشيغن ميديا». ومشروع «دي جاي سي» هو تعاون فريد من نوعه بين وسائل الإعلام البارزة فـي منطقة ديترويت، ويضم مجلة «بريدج»، و«تلفزيون ديترويت العام»، و«إذاعة ميشيغن العامة»، وشبكة «دبليو دي أي تي» و«نيو ميشيغن ميديا»، إضافة الى اسهامات من صحيفة «ديترويت فري برس».
Leave a Reply