مع إشتداد العدوان الإسرائيلي الإجرامي وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزَّة لوحظ تنامي الإنحياز الفاضح في وسائل الإعلام الغربية، خصوصاً الأميركية، متطابقةً مع مواقف حكوماتها المشينة الفاقدة للضمير والتي لم تهز مشاعرها مجازر قتل الأطفال والنساء والمدنيين وآخرها إبادة عائلة فلسطينية مؤلفة من أربعة أطفال على شاطيء غزَّة.
ولم يشذ الإعلام المحلي الأميركي في منطقة ديترويت عن هذا التواطؤ المعيب من دون مراعاة لخواطر ومشاعر أكبر كثافة سكانية عربية أميركية خارج منطقة الشرق الأوسط. ويأتي هذا التغاضي والإستهتار بأحاسيس العرب ومصيرهم مجدَّداً من صحيفة «ديترويت نيوز»، طبعاً، المحافظة (على خطِّها الإسرائيلي المحط) وبشكلٍ فج وبالذات من محرر صفحة الرأي فيها نولان فينلي، ما غيره، الذي له سوابق في ابداء مواقف عنصرية ضد العرب ومؤيِّدة بشدَّة لإسرائيل رغم اجتماعات عديدة عُقِدتْ بينه وبين نشطاء وممثلين عن الجالية العربية الأميركية ومؤسساتها خصوصاً بعد قيام مقاطعة محطَّات الوقود المملوكة من ابناء الجالية العربية ضد بيع صحيفة«ديترويت نيوز» في الماضي لنفس السبب خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان. ولم تصل هذه الإجتماعات، التي كان هدفها إقامة حوار مع فينلي وإدارة الصحيفة من أجل أنْ يكون موضوعياً ولو بالحد الأدنى وينظر إلى وجهتي النظر، لم تصل إلى نتيجة معه لأنه على ما يبدو يعلو الصوت الصهيوني عنده فوق كل مصلحة وصوت ولا يُعلى عليه!
ربَّما تتكرر الحاجة اليوم لمقاطعة «ديترويت نيوز» من قبل أصحاب المحطَّات بسبب قلة احترام هذه الصحيفة وعدم موضوعيتها في التعاطي مع البربريَّة الإسرائيليَّة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني. ولكن أين العرب مما يجري في بلاد العرب!؟
ففي مقال للرأي نشره يوم الاثنين 13 تمَّوز (يوليو) دعا نولان فينلي قادة العالم، بمن فيهم حكَّام واشنطن، إلى «ترك المجال لإسرائيل لـ«إنهاء المهمة» و«القضاء على حماس»!. ويقول فينلي في مقاله «إنه لا يجب ممارسة أي ضغط دولي إطلاقاً على إسرائيل وخططها الحربيَّة»، وأنه «ينبغي أنْ يُسمح للحكومة اليمينية فيها لإنهاء «حماس» مرة واحدة وإلى الأبد من أجل وقف الهجمات الصاروخية من قبل هذه المنظمة الإسلامية الفلسطينية». والكلام هنا لفنلي. وفي إشارةٍ إلى المدنيين الفلسطينيين الذين سيتم قتلهم بسبب إقتراح الكاتب الحاقد بشن الحرب العدائية الشاملة، كتب فينلي يقول بكل صفاقة وتحدّ «مهما كانت الأضرار الجانبية التي تحدث في هذه العملية، فأي جزء أو كل الخسائر التي قد تقع في صفوف المدنيين ينبغي أن توضع في خانة مسؤولية «حماس» وليس إسرائيل»!!. وهنا، يفضح فينلي عن عنصريته المقيتة باستخفافه وتجاهله للأرواح الفلسطينية البريئة عندما يصف الشهداء بـ «الأضرار المادية الجانبية مهما كان عددهم».
إنَّ سوء اختيار فينلي لكلماته البغيضة والعنصرية والتي لا تقيم وزناً لأرواح البشر، يثبت وبدون جدل بأنه لا يكترث لفقدان الأرواح البشرية بسبب هويتهم الوطنية. فإذا لم تكن هذه هي العنصرية بعينها، فماذا يعني كل ذلك؟
وكغيره من الإعلاميين المتصهينيين، يسرد فينلي حججه الملتوية المنحرفة في محاولة لإظهار إسرائيل بمظهر الضحية التي تتلقى صليات من الصواريخ كل يوم لإيذائها، وكأن الولايات المتحدة، التي تبدي إلتزاماً غير مشروط لا يتزعزع بالدفاع عن تل أبيب، تحاول تحجيم الجيش الإسرائيلي وتقوية «حماس». لكن الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن المسؤولين في البيت الأبيض وعلى رأسهم باراك حسين أوباما، الذي صوَّت له العرب للأسف بكثافة، قد أكد مراراً وتكراراً «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». كما أنَّ تمويل الجيش الإسرائيلي ورعايته تتمان بلا حدود من خلال أموال الضرائب التي نسددها نحن العرب الأميركيين وغيرنا من الشعب الأميركي التي تقطع عنه المياه في ديترويت التي اعلنت افلاسها بينما إسرائيل تنعم باموال الشعب الأميركيون وتشن حروبها المدمرة على الشعب الفلسطيني المظلوم.
الحرب ليست أما أبيض أو أسود وإبطال أو إفناء خصمك غير ممكن كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي يضيف «أنا أو هو، هكذا تبدأ الحرب، لكنها تنتهي بلقاء حرج: أنا وهو».
لذا فسحق «حماس» يا مستر فنلي، لن ينهي دورة العنف لأنَّ المقاومة هي ردّة فعل على القمع والاحتلال البغيض بكل ممارساته التعسفيَّة. وطالما تحتل إسرائيل بشكل غير قانوني وتستعمر وتستوطن أراضي الفلسطينيين وتهدِّم منازلهم وتعتقل أطفالهم خارج سقف القانون والإجراءات القانونية المرعيَّة الإجراء في العالم المتمدن وتشرذم مدنهم وقراهم من خلال بناء المستوطنات السرطانية ونقاط التفتيش والأسوار العنصرية الفاصلة، لن يكون هناك سلام. فالعدالة هي شرطٌ أساسيٌ لتحقيق السلام الدائم، وكما قال البابا بولس السادس مرة في عام 1971، «إذا كنت تريد السلام، فاعمل من أجل تحقيق العدالة». ولطالما بقي نظام الفصل العنصري مزدهراً وحيَّاً في فلسطين المحتلة، ستكون هناك مقاومة بلا شك. والمثل الصارخ على دولة التمييز العنصري، التي يعترف بحقيقتها هذه حتى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، هو امتيازات المستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، الذين يملكون حريَّة التجوُّل وإجتياز كل الطرق الخاصة، في حين أن «جيرانهم» الفلسطينيين عليهم أن يمرُّوا عبر نقاط التفتيش الإجباري المذِل للجيش الإسرائيلي في كل مرة يريدون مغادرة بلداتهم. كما أنَّ لدى المستوطنين مدارسهم الخاصة والحصرية ووسائل النقل العام كما يحق لهم أنْ يصوتوا في الإنتخابات الإسرائيلية، في حين أن اصحاب الأرض من الفلسطينيين ممنوعون من ذلك ومحرومون من كافة الحقوق المدنية والإنسانيَّة.
ولو افترضنا تمكُّن إسرائيل من قتل آخر ناشط أو مقاوم في «حماس» وغيرها من فصائل المقاومة فستولد المئات بل الآلاف من المنظمات المماثلة، من رحم هذا الظلم المستشري حتى تقف في وجهه وتحاربه وتهزمه لأن هذه هي حتمية التاريخ التي تشرعن المقاومة ضد الاحتلال حتى نوال الحرية.
ولم يفشل السرد المنحاز الذي قدمه فينلي في وضع هذه الجولة من العنف في المنظور الأوسع للصراع الذي يعود إلى 70 عاماً فحسب، بل أخفق أيضاً في أن يعود بضعة أسابيع إلى الوراء حين أُشعل فتيل هذا العدوان.
فقد بدأت المعركة بعد أن اتهمت إسرائيل حركة «حماس»، طبعاً من دون تقديم أي دليل، بخطف وقتل ثلاثة مراهقين مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية فشنَّ المستوطنون المتطرفون موجة من الهجمات العنصرية المجرمة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وأحرقوا صبياً فلسطينياً وهو حي حتى الموت (مما يذكِّر بجماعة «كوكلكس كلان» الأميركية العنصرية المتطرفة ضدَّ كل من هم من غير البيض)، كما اعتقلت قوات الإحتلال الإسرائيلية المئات من الشباب الفلسطينيين، وبعضهم كانوا قد تحرروا مؤخراً من سجونها، وهدمَّتْ عشرات المنازل الفلسطينية في حملة تعسفية واسعة من العقاب الجماعي الذي تشتهر به هذه الدولة العنصرية الخارجة عن كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية.
إلا أنَّ من الصعب طرح الحقائق مع أشخاصٍ من أشباه فينلي الذين يرون التاريخ فقط من خلال عدسة مشوَّهة بالتحيز العنصري الصهيوني. ذلك أنَّ كلمات فينلي تشي بأنه عنصري مؤيِّد لسياسة الفصل العنصري. ومع إقرارنا بحقِّه في التعبير عن آرائه الخاصة، مهما كانت منفِّرة، فالدستور يمنح له الحق في الدعوة للحرب في الجانب الآخر من العالم وهو ينعم بالراحة والسلامة والطمأنينة من مكتبه الفاخر في ديترويت المفلسة. لكن حبره الحاقد وكلامه البغيض المتعصِّب لا يجب أنْ يبرز على صفحات جريدة عريقة مثل «ديترويت نيوز».
خلاصة القول، إن أعداد الشهداء الفلسطينيين قد تكون مجرَّد «ضرر جانبي أياً يكن حجمه» بالنسبة لفينلي وهذا شأنه، لكن لا ينبغي أن يكون هذا الموقف اللاإنساني محسوباً على صحيفة «ديترويت نيوز». فشهداء العدوان الصهيوني هم بشر من لحم ودم ولهم أسماء وقصص وأهداف للمستقبل وتاريخ، عدا عن كونهم أقارب وأصدقاء لبعض قراء «ديترويت نيوز» في الجالية الأميركية الفلسطينية المحلية.
وإذا كانت إسرائيل ترتكب المجازر في فلسطين فعلى «ديترويت نيوز» وغيرها من الوسائل الإعلامية المنحازة التي لا تستقوِ إلا على العرب، أنْ لا ترتكب المجازر الفكرية بحق الجالية العربية التي تشكل نسبة كبيرة من قرائها ومروجيها عبر محلاتهم التجارية وبالتالي فمصلحتها ألا تستعدي من يشكلون جزءاً مؤثراً من النسيج الإجتماعي والديموغرافي في منطقة انتشار الجريدة. قد يكون الوقت حان لتلقين الصحيفة درساً جديداً سبَّبه لها أحد محرريها من أصحاب التاريخ الأسود في معاداة العرب وقضاياهم وفي التزلُّف لأنصار إسرائيل وأباطيلهم وذلك بالإمتناع عن بيعها في محلاتهم
«صدى الوطن»
Leave a Reply