صار سب العرب ومديح الأتراك موضة دارجة ، في كل مكان. في البيت والمقهى والشارع والمنبر الإعلامي. يتساوى في ذلك الناس العاديون وإعلاميو الدرجة الأولى ومرتزقو البرامج الحوارية من خبراء ومثقفين وفنانين وراقصين ولاعبين بالبيضة والحجر.
فجأة حل الأتراك مكان الإيرانيين، في قائمة الاحترام والتبجيل، وصيّرناهم أسيادنا وتيجان رؤوسنا، لدرجة أنه صار بالإمكان إضافة عقدة جديدة إلى عقدنا المستحكمة: “عقدة الخواجا”.
وليس من قبيل المصادفة، أن أصل ومعنى كلمة “خواجا” ملتبسان، فبعض المصادر تقول إن أصلها إيراني وبعضها الآخر يقول إن أصلها تركي. ومعانيها متعددة، فهي تعني: السيد، أو الأستاذ، أو الغريب، أو الحاكم. وإذا ما ثبت معناها الفارسي، فهذا يعني أن العرب هذه الأيام منقسمون بين غرامين كبيرين، بين غرام الباشا التركي وغرام الخواجا الإيراني.
وأظن أننا في القريب سنشاهد الكثير من المسلسلات العربية (أو المدبلجة) التي سيكون من شأنها تغيير صورة التركي النمطية، التي ثبتت في أذهاننا لعقود، والتي قدمت الأتراك بوصفهم محتلين قساة غلاظا لا فرق في ذلك بين باشواتهم ودركهم. وربما يذكر بعض المشاهدين كيف أن الدولة التركية استشاطت غضباً على بعض المشاهد التلفزيونية التي احتواها المسلسل السوري “أخوة التراب” الذي تناول مرحلة “السفر برلك”.
هل يتذكر أحد من “المقاومين” بدوام جزئي، حكايات السفر برلك؟!
الأرجح لا.
في بلاد كبلادنا، تصنع السياسة كل شيء. تصنع الاقتصاد والتربية والزراعة والبطاطا والفن والدبكة والمتنفذين والأبطال والخونة ومعاجين الأسنان وأدوية السعال وغوار الطوشة. السياسة تصنع كل شيء.. ماعدا التاريخ!
لهذا من الطبيعي، أن تتغير صورة الأتراك من “السفاحين الذين اقتادونا الى الحروب عزّلا من أي سلاح” في المسلسلات التي بالأبيض والأسود، إلى صورة “العشاق المحمومين” في سنوات الضياع.
وفي السياسة تصدروا قائمة “المقاومة” والبطولة والشهامة بعد انسحاب رئيس الوزراء التركي أردوغان من ندوة جمعته مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في دافوس، هو الذي انسحب قبل دقيقتين من انتهاء الندوة احتجاجاً على تقسيم الوقت.
ومؤخراً وعلى خلفية حادثة أسطول الحرية، سقط تسعة شهداء أتراك، حولهم الأتون الإعلامي، غير البريء، إلى مناسبة لمسح أحذية الأتراك، وسب العرب، بقضهم وقضيضهم، وتاريخهم وأنسابهم وأصولهم وفروعهم.
وينسى المرتزقة في حلبة السب والشتم، والمدح وتمسيح الجوخ من جهة أخرى، ما قدمه العرب لقضية فلسطين، فلسطينيين أو غير فلسطينيين. وينسى هؤلاء ولعلهم لم يعرفوا اصلاً أن الشاعر محمود درويش قال في إحدى قصائده أننا أصبحنا “نعدّ الشهداء كما نعدّ الماشية”، وهو الذي يتساءل في قصيدة أخرى: كل كلنا شهداء، فيكون الجواب: كلنا شهداء!
هل تعرف جوقة المرتزقة، أن الفلسطينيين قدموا خلال قرن من المقاومة، ما يقارب المليون شهيد، أم أن عقدة الخواجا الجديدة تجعل تسعة شهداء أتراك ترجح كفة الغريب؟
Leave a Reply