صبحي غندور
نعم يا جمال عبد الناصر، في الذكرى الخمسين لوفاتك نحن نعيش الآن نتائج «الزمن الإسرائيلي» الذي جرى اعتماده مصرياً أولاً من قبل أنور السادات بعد رحيلك المفاجئ عام 1970، وبالانقلاب الذي حدث على «زمن القومية العربية»، الذي كانت مصر تقوده في عقديْ الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب حالة صهيونية بعضها عُنفي وطائفي ومذهبي وإثني لتفتيت الأوطان… وبعضها الآخر يبايع نتنياهو زعيماً وقائداّ وحامياً ومخلّصًّا!
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فقد كنت تكرّر دائماً: «غزَّة والضفَّة والقدس قبل سيناء… والجولان قبل سيناء»، وأدركتَ أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فأنت رفضت إعطاء أي أفضلية لعائلتك وأبنائك، لا في المدارس والجامعات ولا في الأعمال والحياة العامّة، فكيف بالسياسة والحكم!! وتوفّيت يا ناصر وزوجتك لا تملك المنزل الذي كانت تعيش فيه، فكنت نموذجاً قيادياً عظيماً، بينما ينخر الآن الفساد في معظم مؤسّسات الحكم بأوطاننا.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيامك يا ناصر… فقد سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها «المعاهدات» والمعارك العربية الداخلية. اليوم استبْدِلَت «الهويّة العربية» بالهويّات الطائفية والإثنية ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية. اليوم تزداد الصراعات العربية والإسلامية البينية بينما ينشط «التطبيع مع إسرائيل».
هكذا هو واقع حال العرب اليوم بعد غيابك يا عبد الناصر، نصف قرن من الانحدار المتواصل!. نعم، المنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات .. لكن ما لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات المستمرّة على العرب منذ مائة سنة، هي عمر التوأمة والتزامن بين وعد بلفور وبين تفتيت المنطقة وتقسيمها لصالح القوى الكبرى.
نعم، نفتقدك يا ناصر في هذه الليالي العربية الطويلة، الشديدة في ظلمها وظلامها، لكن الخلاصات الفكرية والسياسية لتجربتك، خاصّةً في فترة نضوجها ما بين عامي 1967 و1970 هي التي نحن الآن بحاجةٍ إلى التأكيد عليها.
فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص «الميثاق الوطني» وتقريره في العام 1962، وإلى بيان 30 مارس في العام 1968، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية للتجربة الناصرية بما يلي:
• الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين:
– الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء.
– الوجه الاجتماعي: الذي يتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.
• المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو الإثنية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي من دونها ينهار المجتمع، ولا تتحقّق الحرّية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.
• اعتماد سياسة عدم الإنحياز ورفض التبعية لأية جهة خارجية تقيّد الوطن ولا تحميه، تنزع إرادته الوطنية المستقلّة ولا تحقّق أمنه الوطني.
• مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر –مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر– ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ تاريخي مشترك. والاستناد إلى العمق الديني لمصر وللأمّة العربية القائم على الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية التي ظهرت جميعها على الأرض العربية.
• رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو للعمل الوحدوي والقومي، وبأنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتّحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة، بل كما قال ناصر: «إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة هو الطريق إلى الوحدة».
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، فقد وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على:
• بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو إثنية، ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني، ومن خلال إعدادٍ للوطن عسكرياً واقتصادياً بشكلٍ يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدوّ الإسرائيلي.
• وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.
• العمل وفْقَ مقولة «ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة» وأنّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ الفلسطيني المغتصَب.
• وقف الصراعات العربية–العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمر لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
Leave a Reply