آمنة إسماعيل عروسٌ في عمر الزهور تزوَّجت منذ ستة أشهر، كانت تقطن شقتها وسط أحد الأحياء الراقية في محلَّة «الرملة البيضاء» مع زوجها الذي كان يصوِّر الشقَّة من هاتفه الخليوي، ففاجأته بجلوسها على حافة الشرفة عاقدة العزم على الانتحار برمي نفسها من الدور الثامن. زوجها المصعوق المصدوم ترجَّاها ألاَّ تفعل وذكَّرها ماذا سيحصل لأُمِّها إذا حصل لها مكروه لكن لم تكترث ولم تهمَّها الكاميرا وتمتَمتْ بكلماتٍ غير مفهومة من قبيل قل لوالدتي إنِّي أُحبها ومن دون تردُّد أو إضطراب أو خوف، قفزت من الشرفة الى موتٍ مُحتَّم وسط صراخ زوجها الذي لم يقدر على تصويرها وهي على الأرض مهشَّمة العظام.
في زمن قطع الرؤوس وشيّها وأكل الأكباد وإعدام الأطفال ورمي الناس من فوق السطوح وفي الأنهار بعد ذبحهم كالنعاج وفي زمن «سحل» الأشخاص وهم أحياء، يأتي إنتحارا ٓمنة إسماعيل وكأنَّه أشدُّ إيلاماً ووقعاً على النفس الإنسانيَّة. شريط الفيديو القصيركعمرالعروس المنتَحِرة، عُرض على «يوتوب» فسرى كالنار في الهشيم، مستدرجاً الدموع من عيني كاتب هذه السطور ومعظم الذين شاهدوا الفيديو. لقد بقينا مشدوهين مشدودي الأعصاب ومذهولين لأيام، وبقي صراخ الزوج في آذاننا وكأنَّنا لم نشهدْ المجازر الإرهابية التي ارتُكبت في وضح النهار بسوريا. فوجئنا لهشاشة الحياة وسهولة الموت المجَّاني والصفعة التي وجَّهتها آمنة لوعينا ووجداننا لن تُمحى عبر السنين. حقَّاً إنَّ الحياة مليئة بالألغاز والأسرار ولا أحد يعرف أسباب التصرف الإنساني المتهوِّر كالإقدام على قتل الشخص لنفسه بدمٍ بارد وأعصابٍ هادئة!
وأكثر حيرةً من النفس البشرية، هذا البلد الذي هو «بهْدَلة» بين الأمم طالما فيه ساسة جعلوا النفاق صفتهم والكذب لازمتهم وفيه القاعدون على أعقابهم الذين لا يفعلون شيئا! خذوا مثلاً بهيَّة الحريري. بعد حملتها وحربها الشعواء ضد الجيش اللبناني الذي قتل عناصره الأسير وعصابته، الجيش الذي شبَّهت دفاعه عن نفسه في عبرا بجريمة اغتيال شقيقها قبل ٨ سنوات، بدَّلتْ موقفها منه فجأةً وقامت بزيارة قائد الجيش قهوجي مرَّتين، مرَّةً في مكتبه وأخرى في السراي مع الحوتين الماليين السنيورة والحريري. بل بلغ بها الرياء إلى درجة أنها أقامت حفل إفطار في «البيال» على شرف العماد قهوجي الذي هتك «المزرقِّين»، وهي على رأسهم، عرضه وبعد ان جعلت من الجيش محور شرٍمستطير أمام «الملاك» الأسير ومطربه النَّعير وجنَّدتْ ٤٢ محامياً للدفاع عن أذنابه المجرمين وحملت على مدير مخابرات الجيش في الجنوب، كما كان يفعل الأسير، مفرجةً عن العديد منهم ومحاولةً الإفراج عن مرافق الأسير الذي كان يحاول الهرب إلى نيجيريا عن طريق مطار بيروت بعد أنْ «باع» لحيته وصفَّف شعره على الموضة (سبايك) وكأنَّه لم يكن سلفياً يشبه شخصاً من العصر الحجري وخارج التاريخ تماماً كإبن لادن الأسير! ويكبرالشك أكثرعندما نعرف أن هذا المرافق، الذي تحوَّل إلى «مودرن»، شارك في قتل الجنود في عبرا ويحمل اسرار الأسير فلماذا تريد بهيَّة الإفراج عنه؟! وللأسف تجاوب الجيش مع وليمة «البيال» ورياء الذين يقفون ضده في السر والعلن بينما أهالي قتلى العسكريين الذين قضوا في عبرا لم يفكُّوا حزنهم بعد ولم يكفّ نحيبهم وبكاؤهم على فلذات أكبادهم.
والتغيير المفضوح غير المقنِع تجاه الجيش حصل بعدما فعلت زيارة السنيورة والزرقاويين إلى بلدهم الأول للقاء معلمهم، فعلها في الاستدارة «الجنبلاطية» للزرقاويين من حاقدين على الجيش إلى مؤيدين له والموافقين على التمديد السريع للعماد قهوجي من دون ربطها بالتجديد لزعيم ميليشيا الأحياء في طرابلس اشرف ريفي. الظاهر أنهم تعرَّضوا لتوبيخٍ وتأنيبٍ شديديَن بعد ان فتح كل واحد على حسابه، من «سعد الطائر» الممنوع من السفر إلى بلده الثاني لأنَّ بندر يتحضَّر للمزيد من الإجراءات العقابية والحرب المستمرة بلا هوادة ضد «حزب الله» بسبب مشاركته في الدفاع عن الشعب السوري وظهر المقاومة وعمقها الاستراتيجي. كل صيحات الحرب البندرية وجولاته في الغرب وتأمره المفضوح، يقابله للأسف تقاعس مريع من الجهة المقابلة التي لم تبادر حتى إلى إعلان الدفاع ضد هذه الهجمة الغادرة واعتبار مملكة العائلة في حالة حرب معها تُعامَل معاملة العدو، إلى درجة إتِّهام الجعفري للسعودية بشراء أسلحة إسرائيلية للمعارضة بقيمة ٥٠ مليون دولار.
والظاهر أيضاً أنَّ أظافر السنيورة قد تقلَّمتْ في السعودية بعد أنْ اعتبر نفسه أكبر من الحريري إلى درجة أنَّه تصرَّف وكأنه «الآيل الطايل» في القرارات وفي والحملة الظالمة على الجيش ومحاسبته بأي طريقة بسبب عبرا. وبلغت به العنجهية الى درجة جمع الرئيس كرامي مع حوت المال نجيب الحريري من أجل الإطاحة بالمفتي قبَّاني الذي بذل سابقاً الغالي والرخيص من أجله، وعندما لم يعد خاتماً في أصبعه أراد التخلُّص منه. لكن السنيورة عاد من كنف معلمه بخفي حُنين وتراجع إلى الصفوف الخلفية في وقتٍ اجتمعت فيه القوى الناصرية الوطنية والشخصيَّات البيروتية (صح النوم) في دارة الرئيس الحكيم سليم الحص وأصدرت بياناً يدين استفراد السنيورة واستهدافه لدار الإفتاء ودق إسفين داخل الطائفة نفسها.
وهكذا بسحر ساحر أصبح كل الساسة، خصوصاً أولئك الزرقاويين الذين قتلوا القتيل ومشوا في جنازته، من أكثر المتحمسين لتقديم التهنئة إلى الجيش اللبناني في عيده. والمؤسف أنَّ كل هذه الاستهانة بذكاء الشعب لن تحرِّك مشاعره أبداً لأن أي حركة من قبل أيٍ كان ستوصف بالطائفية أوالمذهبية، حتَّى إذاحاول البعض استقدام حركة «تمرُّد» على الطريقة المصرية إلى لبنان وقرَّر القيام بتظاهرة ضد النظام الطائفي في ١٠ آب (أغسطس) المقبل، لم يسمع بها أحد. ذلك لأن الشعب الذي يتديَّن ليتزيَّن، آخرهمًُّه الثورة ضد الحكَّام الذين مدَّدوا حتى النفايات طالما أنَّ أي ثورة سوف تحمل لوثة المذهبية والعنصرية!
وفي عيد الجيش، يقف الجنرال ميشال عون وحيداً لانه يحمل المنطق والثبات والنظام والدستور الذي أصبح «خرقةً» في «شبه الوطن» لا قيمة فعلية لها. وبالرغم من أسلوبه الفج بعض الأحيان يبقى أنه انسانٌ مبدئي منسجمٌ مع نفسه بالنسبة للتمديد والفراغ في الدولة السائبة والفساد المستشري في أجهزتها والذي هو الأسوأ في العالم. إسرائيل تتحضَّر للحرب على لبنان وتعدُّ العدَّة بدليل موافقتها على استئناف المفاوضات مع مشلول الإرادة محمود عبَّاس وضعف «حماس» التي خسرت دنيا سوريا ولم تربح آخرة المقاومة أو على الأقل شعب المقاومة. أما الساسة في لبنان فيتلهون بالقشور عن كل ما يجري حولهم بدل الاستعداد للآتي الأعظم.
آمنة إسماعيل قفزت إلى الموت من دون سببٍ معروف، أما شبه سياسيي «شبه الوطن» فيدفعون الشعب بأكمله للقفز نحو المجهول ولأسباب معروفة!
Leave a Reply