ثمَّة كتبٌ استثنائية تحمل شحنة إبداعية كما لو كانت بيت شعر، أو حكمة أو مثل، فيها ما قلَّ ودلَّ، ومنتصرة باختزالها.
وإلى هذا النمط ينتمي كتابٌ توقفت عنده طويلاً للكاتب نشأت المندوي، الصادر في بغداد، العراق أوخر العام الماضي 2017 وعنوانه: «التراشق بالعطر التاسع» وهو مجموعة من 16 قصة قصيرة، أجمل ما فيها أنها مشهد حقيقي لواقع مأساوي طويل، يختصره القاص بمزيج من الجسد والروح وومضة ضوء عاشها ونسمة عطرٍ غمرت صدره ذات أمسية مشعة بعتمتها في جنبات العراق. ولأنه، أي الكاتب، بحاجة إلى وطنٍ في قلبه كي يستمر، فقد جعله الحب الكبير يغني دورته الدموية الكتابية برعشات الحنين وشهوات المستحيل وفي لاوعيه عشقٌ مع مدينته الأم، وهو غرام حوله عبر قصصه القصيرة من فحمٍ إلى ماس، وبمهارة الصائغ نحت بأسلوبه الرشيق عطراً تاسعاً رمزاً لنشوء الحياة في رحم الدنيا.
«كانت خارطة الوطن براقة تتدلّى بسلسلتها الذهبية من أعناق الضيوف قاطبة، وتحكي لنا لعبة التراشق بالأسماء بدهشة غريبة». هذه الكلمات نهاية قصة «دهشة» تحمل من الرضا بقدر ما تحمل من عذاب لطيف هو وجه تأمل لما آل إليه العراق طائفياً، ووجه سؤال يتجلّى جوابه في محاورة تصنع جسوراً أو تطرد ثقل الآخر وانفصاله وتهديده.
القصة الجميلة والتي تمنيت أن تكون عنواناً للكتاب، هي «البحث عن الله». بشيء من الطيف وبشيء من الاختفاء في علاقة الكاتب مع أمه ومع جده وإشكالية خطف والده وشعوره بالذل كأن وطنه الذي يحب يُصادره وحوش حاملون للسلاح، «ويحيل خبز أمه إلى كفن». وحيرته بين نصيحة جده بالمرونة والتعقل وأن يصمت بحكمة، إزاء مشاكل وبذاءة وغرور وشتائم أقرانه المستمرة له.
التراشق بالعطر التاسع هو الكتاب الرابع للأستاذ نشأت المندوي، وهو يسيل بساطة وسلاسة وأدباً رفيعاً في قالب ذكي يفوح عطراً وسلاماً ودفئاً ورشاقة وبدون تشنج، وهذه للأمانة صفة الكتاب الذي لا يكرِّر نفسه.
لقد كان فألاً جميلاً أن أبدأ السنة الجديدة بقراءة كتاب ينشر عطراً تاسعاً.
«أقلام مهجرية»
أُثمِّن وأُقدِّر كل جهد ثقافي، سواء أكان كتابة أو مسرحاً أو لقاء أدبياً هنا في ديربورن، لأن نمط المعيشة فيها يجعل الفعل الثقافي نوعاً من الترف والرفاهية يمكن الاستغناء عنه. وعلى مرّ السنين، ظهر في ديربورن شعراء وأدباء وكتَّاب ومفكرون وحتى مبدعون، قلّة قليلة تعرفهم. لأجل ذلك دأب الأستاذ كامل بزّي، ولسنوات عديدة، وكنوع من الوفاء للكلمة الصادقة والنابعة من القلب والمبتلة بدمع الغربة والمدوزنة على آهاتها، ولأجل ذلك حمل السيد بزّي قلمه النزيه وبعقله الواعي وحسِّه المرهف، ونفسه التي تسمو على الصغائر، جمع بعض نتاجات أدباء ومثقفين من الجالية العربية في ديربورن، وأضاء على كتاباتهم الأدبية والشعرية والفلسفية وجمعها في كتاب اختار له عنوان رائع: «أقلام مهجرية»، وهو بمثابة ذكرى عطرة لكل من أمسك بالقلم وأدى أمانة الكلمة التي من شأنها أن تكون حجر أساس لنهضة ثقافية أدبية حقيقية.
«أقلام مهجرية» كتاب يستحق التنويه والشكر، وهو أشبه بنجمة ساطعة في عتمة الثقافة هنا في ديربورن.
Leave a Reply