في إحدى ليالي الصيف الماضي، جلستُ وأولادي مع صديقٍ لإبني في حديقةِ منزلنا بين الورود المبتسِمة، وقرب شجرةِ الكرز التي غرسَها زوجي علّهُ يأكل من ثمرها لاحقاً ولكنّها خيّبتْ أمله، إذ ظهر بأنها «كرز برّي» تحمل ثمراً مُرّاً، لا حلواً، كهذه الحياة!
صديقُ ابني شابّ طَموح تغرَّبَ عن وطنه وأهله كي يكمل تعليمَه الجامعي، ويعمل فيما بعد ليساعد أهلَه في وطنه الأم، تعرّفَ على فتاة زميلة له في الجامعة ووجدَ فيها صورةَ الزوجة المثلى في المستقبل الذي يحلم به، توطّدت بينهما العلاقة حتّى طلبَ منها زيارة أهلها والتقدّم للزواج منها، وفعلاً استضافه أهلها في منزلهم بكلّ ترحاب، والفرحُ يملأ قلوبهم بالعريس القادم، وأخذت النظرات ترسل ترانيمَها لترطيب قلبي العاشقَيْن، وتشعرهما بحميميّةِ الجلسة، طلبَ العريس يدَ العروس بكلّ جرأةٍ وثقة واطمئنان، فطلب الأب من العريس منحه الفرصة للسؤال عن أهله.
كان الصباح قد أسفرَ عن وجهه المشرق فبعثَ الأضواءَ في حياةٍ رتيبةٍ راكدة، احتسى الأب قهوته الصباحيّة وتوجّهَ إلى أحد الشباب من معارف العريس مستفسِراً عن وضع أهلِه الإجتماعي والمادّي، أخبره الشاب أنّه من عائلة كريمة تتمتّع بسيرةٍ حسنة، ووضعُها المادّي «مستور» أي عادي جدّاً، اقتنع الأب به، وتمَّ عقد القِران، ثمّ اجتهد العريس في تأمين عملٍ له إلى جانب مواصلته للدراسة، وكان له ذلك، سُرّت العروس وشعرت بأنّ عريسها سوف يحصد مجداً وشموخاً، وامتدّ جسرُ المحبّة بينهما ناسجاً التآلف والإلتحام الروحي والذوبان أحدهما بالآخر.
راح الشاب يجهّز بيتَ الزوجيّة، رغم ثقل الحمل عليه، حيث كان يسدّد أقساطاً باهضة للجامعة بسبب وضعه كطالب يتمتّع بإقامة دراسة فقط، فأشار عليه زميلٌ له، بأنّ خطيبته بحكم عقد الزواج تعتَبَر زوجته الشرعيّة، وعليها أن تقدّم طلباً للزواج المدني المعمول به هنا، وبذلك يحصل على الإقامة الدائمة، الأمر الذي يمكِّنه من الحصول على قرضٍ للدراسة، ويعتاشا معاً من مورد عمله، خاصّةً وإنَ زميله قد مرَّ بنفس التجربة وكانت ناجحة.
عرضَ العريس ذلك الطلب على والد زوجته أو خطيبته، وكانت المفاجأةُ صادمةٍ، حيث رفضَ الطلب، وزمجرَ وأرعد غاضِباً، كأنّما أصبح شخصاً آخرَ، وثارت ثورته على ابنته وأمرَها بفسخ الخطبة، أي إيقاع الطلاق، متّهِماً الشاب المسكين بالخداع والكذب، وأنه تزوّج من ابنته لأجل هذا الغرض فقط، حاول الشاب تهدئة روعه، وإقناعه بأنّه بريء من هذه التهمة، غيرَ أنّ الأب المتعجرف والظالم لم يراعِ أحاسيسَ العريسَين وعلاقة الحبّ المتينة بينهما.
لقد هدّم الأب آمالاً كانت ستُفضي إلى تكوين أسرة سعيدة متكافئة، وتمّ الطلاق على مضض، بين عشيقَين كانا يشعران بارتعاشٍ في وجناتهم عند اللقاء، كسرَ قلبيهما دون رحمة، وكلّ ذلك حصل لأنّه يملك الوصايةَ على ابنته، مستخدِماً إيّاها لأبشع النتائج، نتيجة تمسّكه بتراثه المهتريء وتقاليده البالية، ضارباً عرضَ الحائط مشاعرَ ابنته، متناسياً أنّ الله سبحانه أعطاها حقّ الإختيار، وبإمكانها أن ترفض عبوديّة وطغيان أبيها.
للأسف حمل بعض الآباء معهم تقاليدَ باليةً عفى عليها الزمن، كما حملوا عُقدَهم المترسّخة في نفوسهم المتحجّرة، ولم يفكِّروا للحظة بأنّ زمانهم هو غير زمان أبنائهم، أنا لا أنكر أنّ بعضَ الشباب وهم قِلّة، يتخلّون عن زوجاتهم بعد الحصول على الإقامة الدائمة، ولكن يجب أن لا تكون قاعدة يُبنى عليها، وعلى حساب وإضرار شباب جادّين في بناء أسرةٍ سليمة.
كان من الأجدر بمثل هذا الأب أن يساعد ذلك الشاب وابنته في الوصول إلى برِّ الأمان، طالما عرفَ بأنّه من أسرة كريمة وكانت نيّته صافية، ومقصده شريفاً، بدلاً من أن يحطّم قلبَيهما لمجرّد ظنون خاطئة وأوهام مُضلِّلة.
Leave a Reply