سامر حجازي – «صدى الوطن»
لا شك أن المناخ السياسي المرافق للانتخابات الأميركية وصعود الخطاب السياسي المعادي للاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، يزيد من تعقيدات العلاقات الاجتماعية بين أبناء الأقليات، ومنهم العرب الأميركيون، من جهة، وبين الأميركيين البيض من جهة أخرى.
الجاليات العربية والإسلامية في منطقة ديترويت، تتركز في مدن يشكل الأميركيون البيض غالبية سكانها، مثل ديربورن وديربورن هايتس، وستيرلنغ هايتس وغيرها من مدن مقاطعات وين وماكومب وأوكلاند التي تعج عموماً بالأقليات من السود واللاتينيين والاسيويين والعرب واليهود في ظل تعايش اجتماعي مقبول.
وإذا كانت الولايات المتحدة تعيش اليوم توتراً عنصرياً بين مجتمع الأفارقة الأميركيين والشرطة على خلفية مقتل عدد من الرجال السود على أيدي الشرطيين البيض، وصعود حركة «حياة السود مهمة» الاحتجاجية، فإن منطقة ديترويت تبقى حتى الآن بعيدة نسبياً عن هذه الصدامات، والأمر نفسه ينطبق على المشاعر المعادية للعرب والمسلمين التي عمّت أنحاء الولايات المتحدة مع تصاعد الإرهاب والإسلاموفوبيا، فيما ظلت منطقة ديترويت تنعم بعلاقات جيدة بين العرب والمسلمين ومواطنيهم البيض، أو القوقازيين بحسب التصنيف الرسمي لهم.
خلافا للاعتقادات الشائعة، يبدو أن أغلبية البيض الأميركيين لا ينطوون على مشاعر الكراهية العميقة لـ«الملوّنين»، كما أن علاقاتهم مع الأقليات الأخرى لم تتفاقم إلى توتر ظاهر.
العرب الأميركيون في مقاطعة وين، ومعظمهم من المسلمين، نجحوا بإرساء مجتمع متماسك في مدينة ديربورن انطلقت منه العديد من الأسر العربية إلى المدن المجاورة، فكانت محل قبول من السكان البيض الذين رحبوا واحتضنوا جيرانهم الجدد والثقافة التي أحضروها معهم، رغم الشوائب التي تعتري هذه العلاقة بسبب اختلاف العادات والمفاهيم.
ولكن يمكن القول إن أعدادا كبيرة من البيض في منطقة مترو ديترويت يمكن اعتبارهم أشخاصاً منفتحين ومرحبين بالمهاجرين العرب، بشكل يدحض الانطباعات المسبقة حول العلاقة بين العرب والبيض.
مصالحة مع الثقافة العربية
لاشك أن العلاقة بين العرب والبيض قد شابها الكثير من التوجّس والحساسية والتنميط الذي تفاقم في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، ولكن مشاعر الانكفاء والشك بين المجموعتين سرعان ما تزول وتتبدد، مع زيادة التواصل بينهم، وهو الأمر الذي أكده غراهام ليديل في حديث مع «صدى الوطن»، فقال: «في المجتمع الذي أعيش فيه، اختبرت الكثير من المواقف والمشاعر السلبية، خصوصاً ضد المسلمين، وكنا نسمع قصصاً سيئة عنهم في مرحلة هجمات الحادي عشر من أيلول والحرب على العراق، وقد ولّدت تلك الأخبار انطباعا لدينا بأن المسلمين عنفيون»، مشيراً الى أنه قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر «كنا بالكاد نسمع عن العرب والمسلمين».
مواقف ليديل تجاه العرب والمسلمين تغيرت، بعد دراسة الشاب الأبيض -الذي نشأ في أسرة محافظة بمدينة ليفونيا- لصف دراسي حول الشرق الأوسط في جامعة «غراند فالي ستايت» في شمالي ميشيغن، ليجد نفسه مرغماً على التخلّي عن التصورات النمطية ومنجذباً أكثر فأكثر نحو الثقافة العربية التي قرر دراستها متوجهاً الى المغرب.
وفي هذا السياق، قال: «بدأت بدراسة اللغة العربية ووجدت نفسي مهتماً بالسفر إلى منطقة الشرق الأوسط.. لقد بدأت القصة وكأنها نوع من الصراع الشخصي لتبديد أية مشاعر تمييزية أو عنصرية، وفجأة وجدت نفسي مفتونا بالعالم العربي وصرت أتابع أخبار الحرب على العراق وجميع المشاكل التي يعاني منها الشرق الأوسط».
ليديل اليوم، يعمل صحفياً، حيث سافر إلى فلسطين المحتلة وأقام فيها لمدة عام ونصف العام وتمكن خلال تلك الفترة من تطوير مهاراته باللغة العربية.
حين عاد ليديل إلى منطقة مترو ديترويت أثار دهشة العرب الأميركيين وإعجابهم لنجاحه في تحصيل المعارف اللغوية والثقافية العربية مما مكنه من كسب الكثير من الأصدقاء العرب. وحول هذه النقطة، أضاف: «الناس كانوا متفاجئين ولكنهم كانوا لطفاء جداً معي.. لقد كسبت الكثير من الأصدقاء بهذه الطريقة.. الناس في مجتمع الجالية العربية تقبلوني وكانوا مرحبين، ولم أشعر مطلقاً بأنني شخص غير مرغوب فيه».
ويقرّ ليديل بوجود مجتمعات محافظة في الولايات المتحدة لا تزال تنظر من زاوية نمطية الى العرب والمسلمين، ولكنه يؤكد بالمقابل على تزايد أعداد البيض الليبراليين الذين يكافحون تلك التصورات العنصرية من خلال تحركاتهم. ويقول: «أعتقد أن هناك رغبة متنامية لفهم التجربة الحقيقية للعرب والمسلمين بشكل عام، فهنالك معارضة واسعة للإسلاموفوبيا والأشياء التي نراها على قناة فوكس نيوز»، وأضاف قائلاً إنّ «الأمور تبدو واضحة جداً بالنسبة للشباب البيض ذوي التوجهات الليبرالية» الذين يدركون بأن هذه المعلومات المروَّجة بمعظمها تضليلية، مستدركاً بقوله إن هذا الأمر لا ينطبق على جميع فئات المجتمع الأميركي، بل لمسه بوضوح لدى الشباب الليبراليين الذين هم على تواصل معه.
التنميط يشمل البيض أيضاً
الأميركية البيضاء أنجيليكا مارتن (28 عاماً) نشأت وترعرعت بين العرب والأفارقة الأميركيين في منطقة مترو ديترويت وهي تعمل الآن موظفة في شركة «كويكن لونز» وسط المدينة.
وتؤكد أنها لم تتعامل قطّ مع المجتمعات الإثنية المتعددة في منطقة مترو ديترويت على أنها مجتمعات غريبة، بل على العكس كانت تشعر وكأنها واحدة من أبناء «الأقليات» بين أصدقائها العرب الكثيرين، في تعبير يعرفه البيض من سكان مترو ديترويت تماماً نظراً إلى كثافة المجتمعات العرقية والإثنية المتعددة في منطقة جنوب شرقي ميشيغن.
مارتن التي عاشت طوال سني حياتها قريبا من العرب والسود أشارت إلى أنها شعرت بالصدمة حين غادرت هذه المنطقة لتجد نفسها في مجتمع من أبناء جلدتها. وقالت: «أعتقد بأنني تعرضت لبوتقة الانصهار أكثر من بقية الأميركيين، لأنني نشأت في منطقة متنوعة جداً، فيها الكثير من الأفارقة الأميركيين والكثير من العرب الأميركيين، خلافاً لبقية المناطق والمدن الأخرى.
وتشير أنجيليكا إلى وجود صورة خاطئة عن العرب والمسلمين عند الأميركيين لأن ثقافتهم تعتبر غريبة عليهم، وقالت: «أن تصادف شخصاً عربياً في مناطق وسط أميركا يعادل إيجادك لإبرة في كومة من القش».
ولهذا -تضيف أنجيليكا- «أغلب الناس لا يتفاعلون مع العرب، خاصة عندما تغادر هذه المنطقة.. لا يعرفون من هم الكلدان، ولا يعرفون ما هي الثقافة العربية» وتابعت بالقول «لا أظن أن البيض في المناطق الأخرى يكرهون العرب والمسلمين.. أظن أنهم لا يفهمونهم، فإذا رأى أحدهم فتاة تردي حجاباً فهو لا يفهم لماذا تفعل ذلك، ولكن حالما يحصل التواصل بين العرب والبيض تتوضح الأمور، وتصبح عادية جداً.
وأشارت أنجيليكا الى أنه مع صعود خطاب المرشح الرئاسي دونالد ترامب وتركيز الإعلام على تغطية المواضيع المتعلقة بالعنصرية، أصبحت للأميركيين البيض أنفسهم صورةٌ نمطيةٌ سائدة بأنهم عنصريون. وتابعت قائلة: «لقد غدوا مثل أية مجموعة أخرى باتت تحاط بالتصورات المسبقة، حيث ينال أصحاب الأفواه الكبيرة الاهتمام ويجعلوننا نبدو كأشخاص سيئين».
وأضافت بأن الإعلام يصوّر مؤيدي ترامب على أنهم مجانين يحدثون الشغب والكراهية.. ولكنها أكدت أن «هنالك أشخاص من أمثالي يريدون فقط أن يعيشوا حياتهم»، مشددة على أنها «لا تعرف أي شخص أبيض يكره أبناء الأقليات».
ونوهت أنجيليكا بأنها قامت بوصل أصدقائها البيض بأصدقائها العرب، مؤكدة أن النتائج كانت إيجابية جداً، وقالت: «أحيانا كان بعض البيض يتهمني بأن جميع أصدقائي هم من العرب، وفيما بعد صاروا يخرجون سوية ليكتشفوا أن الأمر طبيعي جداً». وأضافت: «عندما تتعرف على الناس فإنك تبدأ بالاهتمام بشخصياتهم وليس بمظهرهم أو طريقة لبسهم أو غير ذلك».
المبادرة.. للتعرف على الآخرين
أما كريستين كولين فقد استطاعت أن تطور إعجابها بالثقافات الأجنبية إلى مصدر رزق لها من خلالها تنظيمها ورشات عمل تدريبية لتشجيع الأميركيين على قبول التنوع واستثماره في إغناء معلوماتهم وتعزيز فرصهم المهنية.
كولين -وهي مؤلفة ومتحدثة عامة ومعلمة لغة- كانت قد نشأت في بلدة صغيرة في شمال ميشيغن، ولكنها اختبرت طعم التنوع الثقافي حين غادرت إلى المكسيك لدراسة اللغة الإسبانية، وفي ما بعد دفعها شغفها بالثقافات الأجنبية إلى دراسة العلاقات الدولية، وانتقلت إلى العاصمة واشنطن لتعليم اللغة الإنكليزية كلغة ثانية لطلاب المدارس والسفراء الأجانب. وخلال تلك المرحلة تعرفت على الثقافة الإسلامية نتيجة إقامتها مع أربع فتيات تركيات، بحسب ما أفادت لـ«صدى الوطن»، مضيفة: جميع أصدقائي (في تلك الفترة) كانوا مسلمين.. لقد ذهبت إلى الحفلات التركية وتمكنت من فهم عاداتهم وتعلمت لغتهم، كما تعلمت المحادثة باللغتين العربية والتركية.
وفيما بعد، سافرت كولين إلى البرازيل لتعمل في تعليم اللغتين الإنكليزية والإسبانية لفترة من الوقت قبل أن تعود لتستقر في مدينة شيكاغو وتتزوج من رجل صربي أنجبت منه ثلاثة أولاد.
وبعد أن فقدت زوجها في مأساة تعرضت لها العائلة، عادت كولين إلى ولاية ميشيغن واستقرت في نوفاي قريباً من الجالية الهندية المزدهرة في المدينة.
وتعليقاً على تجربتها العريضة في التعرف على الثقافات الأجنبية، أشارت كولين إلى أن عقليتها المنفتحة ساعدتها في التعرف على شرائح واسعة من الناس وأنماط كثيرة من الثقافات، مؤكدة على أنه «قد لا يكون بمقدور جميع الأميركيين خوض التحديات التي واجهتها في تجربتها، فالبعض منهم يترددون ويتخوفون من استكشاف المناطق البكر». وقالت: «أعتقد أن السبب الأساسي وراء ذلك هو خوفهم من المجهول، فالأشياء التي لا نفهمها قد تخيفنا، وفي نهاية المطاف، الأمر يتعلق بفضول الشخص ورغبته بالتعلم والاستكشاف، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للكثيرين الذين يفضلون الانسحاب وحسب».
وأشارت كولين -التي تخطط لنشر كتاب يتحدث عن تجربتها في الاختلاط والتعارف الثقافي المتعدد– إلى أنه ما يزال لديها الكثير لتتعلمه، وهي بالفعل تجتهد في كل مناسبة لتتعرف على المزيد من العادات والتقاليد الأجنبية، فقبل فترة اكتشفت أن المسلمين يحتفلون بعيد الأضحى، وكان ذلك بمحض المصادفة التي جمعتها مؤخراً مع عائلة عربية في مطعم ياباني بمدينة نوفاي.
وأضافت : «كانت عائلة كبيرة تجتمع على طاولة بالقرب من طاولتي وقد ظننت للوهلة الأولى أنهم يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم، ولكنني ملت نحوهم وسألتهم عن المناسبة فأخبروني بأنهم يحتفلون بعيد الأضحى. وهو عيد لم أسمع به من قبل».
وذكرت كولين أن ذلك اللقاء شكل لحظة عاطفية مميزة، لاسيما وأنها تعرفت على أفراد العائلة العربية وتفاعلت معهم وتعلمت من أحدهم كيفية قول «كل عام وأنتم بخير» باللغة العربية.
وفي نهاية تلك الأمسية توجه رجل متقدم بالسن، الى طاولتها متمنياً لها أطيب الأمنيات بمناسبة العيد.
وقالت: « لقد اقترب مني وقال: الحمد لله… فبدأت بالبكاء.. فتابع قائلاً شكراً لله لوجود أناس مثلك. لابد أن تلك العائلة أدركت أن هذه المرأة البيضاء القوقازية سعيدة جداً لرؤيتهم يحتفلون، وعندما عدت إلى البيت أخبرت أطفالي بتلك القصة. لم تكن القصة حول الدين ولا حول اللون.. بل كانت حول تناول طعام ياباني في مطعم محلي والاحتفال مع الآخرين بالحياة.. كانت لحظة حول الحب والإنسانية والتواصل والمجتمع.
Leave a Reply