حين اصطدم الإنسان برتابة الواقع وتواتره اليوميِّ المتزمِّت ليجعلَ منه جزءاّ من آلتِهِ وقطعة ًتدور في ماكِنتهِ الجبّارة آيلة به إلى تحجيمِ رؤيتهِ في النظر إلى ظواهرِ الأشياء والتي عادةً ماتكون باهتة وسطحيّة دون الغوص في أعماقها ومحاولة استكشاف أسرارِها. إذّاك انتبهَ إلى شعاعِ الوهم بمعناه الجماليِّ وليس ذلك الذي يصطلحه الأطبّاءُ النفسانيّون، فقرّرَ الجنوحَ إلى ظلالِ المُخيَّلةِ مُفتتِحاً النزهةَ الغائيّةَ في عالمِها الواسع الرحيب في محاولةٍ لفكِّ الإشتباكات المتداخلة فيها بين الأضداد، محرِّكاً مياهَها الساكنة والنهل من الطاقات الإبداعية الكامنة فيها ليؤسِّسَ مساراً مختلفاّ جديداً في الحياة وبانتقائيّة مُؤرشَفة… حمَلَ إزميلَهُ قبالةَ الصخر فأنتجَ منه تمثالاً لثور.. وضعَ له جناحَي نسر ودمغَه بحراشف سَمَك، مضفياً على مقدِّمته عضلات الأسد وفي مؤخِّرته ذيله أمّا وجهه وهو بيت القصيد كان وجهَ الملك.. إستنبط من كائناتٍ غير متجانسة تحيا في بيئاتٍ متنافرة بدءأ من أحراش الغابة نزولاً إلى أعماق المياه صعوداً إلى هواء الأجواء.
حصل ذلك قبل مايقرب من ثلاثة آلاف عامٍ قبل الميلاد فآستحقَّ بجدارة لقب «وحي الإلهام الأوَّل» حتى صار يُعرف في عالم البشريّة بـ«الثور المجنّح».. لقد كان وهماً اقتحَمَته المخيّلة فأنزلَته إلى عالم الواقع وبذلك أصبحَ ملموساً مُتَداوَلاً في عالم الإدهاش وعلى أرض الواقع تتجلّى فيه طاقة الإبداع من هنا أصبح الوهمُ واقعاً.
إستمرَّ إبداعُ المخيَّلة، وتعدّدت الأمثلة.. في مسيرة الحضارات البشريّة اللّاحقة بآضطراد، كما تنوّعت اتِّجاهاتها في حقول التجنيس.. لا يمكن الإحاطة بها عبر افتتاحيّة، لكنّنا على الإختصار نمرُّ سريعاً على ما نرتأيه من نماذجَ ماثلة. فقبل مايقرب من ألف ومئتي عام أبدعَ الروائي قصص ألف ليلة وليلة وهي لا تمت إلى الواقع بصلة إلّا بالوهم الذي جالَت في عالمِه المخيَّلة فأصبحَت مقروءةً ترفد القارئ بمتعة السياحة في عالم التجلِّيات التي يعجز الواقع عن رفده بمفارقاتها. الإنسان اللاحق لم يكتفِ عند حدودِها بل حين أبدع الفنّان فنَّ السينما والذي صار يُعرَف بـ: عصر الترفيه عن الجماهير، إتّخذَ العديدَ من قصصِها مواضيعَ لشريطه السينمائيّ مجسِّداً أحداثَها على الشاشة الملساء وكمثال على ذلك «رحلة السندباد السابعة».. إنَّ كلّ تلك الحصائل تسلسلتْ عبر الوهم لتتّخذَ مكانها السامي على أرضيّة الواقع. ثمّ جاء مَن استنبطَ منها مواضيعَ لأعماله النحتيّة فأنتجَ تماثيل «كهرمانة».. «شهريار» و«المصباح السحري» تلك القائمة في ساحات بغداد مجمِّلةً المدينة وانتشالها من الوقوع في كآبة الشوارع التي تبثّها حلكة ُ القير.
مِنْ كلِّ ذلك نتبيّن ألتأثيرَ الحيّ والجميل لمدياتها فأَضْحتْ مخيَّلة تنتج أخرى ترفد الواقع بجماليّاتها لتصبحَ جزءاً منه. هنا لا يقتصر الإبداع على بلدٍ دون آخر فطالما هو إنتاجٌ بشريّ فهو ملكٌ للبشريّة جمعاء. كتبَ الروائي الإسباني «ثرفانتس» روايتَه الرائعة «دون كيخوتة» قبل أربعمئة عام، لا يحتاج التأكيد هنا على خروجها هي الأخرى من رحِم المخيّلة رغم أنّها استفزّت مبدعاً آخرَ جاء بعدها في لجّة عصرنا الراهن لتُلهِمَهُ إبداعَ نصبِهِ الشهير «الدون كيخوتة» القائم في وسط مدريد يأتيه السُوّاح لالتقاط الصور التذكاريّة يتدثّرون بها كلّما داهمهم صقيعُ الواقع.
وكلّما آنتصبَ الواقعُ غير العادل أمام الإنسان، كلّما استنفر الوهمُ المخيّلةَ مِنْ أجل أن يرتفع بالواقع إلى مصافِّ العدالة، الأوّل بوسائلِهِ المدمِّرة والثاني بوسائله الجماليّة.. ضُرِبتْ للطاغية «تيمورلنك» خيمة ٌ بأعمدةٍ من الذهب مرصَّعةٍ بالجواهر والزمرّد والياقوت، مفروشةٌ أرضيّتُها بسجاجيد الحرير الناييني، تحيط داخلَها خمسمئة شمعداناً مرصّعة هي الأخرى بالجواهر، تتوزّع طنافسُ الحرير المطرّزة بخيوط الذهب على التخوت المصنوعة من الخشب النادر والثمين، أمّا الطاغية فبِيَدِهِ صولجان مرصّع بأحجار كريمة لا تُقدَّر بثمن، متمنطِقاً بحزامٍ مصاغٍ من الذهب الخالص، وعندما استقرَّ على مقعدِهِ مُحاطاً بوزرائه وأمرائه وحاشيته، إنبرى مزهوّاً متسائلاً نحوَ الشاعر «كرماني» وكان مِن المدعوّين:
– لَوْ قُدِّر أنْ أُباعَ وما ترى في السوق بِكَمْ تشتريني ياكرماني؟
– واللهِ لن أشتريكَ بأكثر مِن عشرين ديناراً.
– ياكرماني..كيف قدَّرْتَ ذلك؟ إنَّ حزامي وحده يساوي عشرين ديناراً.
– ذلك لأنّي لم أنظرْ سوى إلى حزامِك!!
هكذا اجتاح الوهم مكتسِحاً كلَّ ذلك الواقع بما فيه، حيث تفرَّدَ الحزامُ وحده بالرؤيا.
وتلك كانت المحاولات الجماليّة ضدَّ رتابة وضغط وقبح الواقع، وبفروسيّة الفاتح أثبتَت المخيّلة وجودَها السامي في الحياة لتصبحَ عالَماً ملموساً على أرض الواقع.
Leave a Reply