فاطمة الزين هاشم
عندما ينتقل الإنسان إلى العالم الآخر ويترك إرثاً كبيراً سواءً أكان ثقافـيّاً أو فنّياً أو علميّاً، يبقى اسمه محفوراً بذاكرة التاريخ ولا يمحى مهما مرّت السنون وتعاقبت القرون، على العكس من الإرث المادّي حيث يتقاسمه الورثة وينتهي حسابات فـي البنوك أو يتلاشى على طاولات القمار، بحسب نوعيّة الورثة وميولهم، وغالباً ما ينسون إسمه أو قد يقرأون الفاتحة أو يحيون له ذكرى، ثمّ يسدل عليه الستار لينتهي فـي عالم النسيان.
منذ أيّام مرّت الذكرى السنويّة الأولى على غياب العملاق وديع الصافـي زارع الحبّ والوطنيّة بأغانيه ولمّ الشمل فـي مواويله، وكاسر الحواجز بتواضعه وبساطته، غنّى للسنديانة والعصفور والنهر والوادي والجبل، وكان يجعل المستمع يترنّح طرباً بين أحضان الطبيعة دون وعيٍ منه، غنّى للبنان: (المجد معمّرها والعزّ مزنّرها) حتّى رفع مجد لبنان فـي كلّ مكان من العالم، كان شديد الإنتماء للبنان كمبدأ وقيمة عليا فـي زمن ضاعت فـيه المبادئ وتبخّرت القيَم.
بقي صوته يكسر كلَّ المهاترات ويعطي الأمل لعودة الجمال إلى الحياة لكلّ من يسمع ترانيمَ حنجرته، لا يوجد بيت فـي لبنان إلّا ويضم أشرطة كاسيت لوديع الصافـي، عدا عن بثّ الراديو الصباحي الذي يصدح عبره صوته الجبليّ الجميل وحنجرته الذهبيّة، كان جزءاً من الشرق العربيّ بل الشرق العربيّ كلّه، نادى بالإنفتاح والمحبّة عندما غنّى فـي الإغتراب، غنّى لضيعات لبنان ومدنه ووروده وجباله.
وعلى الرغم من كلّ ما قدّمه من عطاءٍ وهب له كلَّ حياته، إلّا أنّه لم ينل حقّه من التكريم ولا من رعاية الدولة كما ينبغي، الدولة السائرة على الوقع البشع لسياسة تجاهل الفنّانين الذين هم رموز من مفاخر الوطن، وتلك هي شحرورة لبنان المنطوية على آلامها منسيّةً فـي أحد الفنادق دون رعاية من الدولة كما لم تنل هي الأخرى تكريماً لما قدّمته إلى لبنان إن كانت فـي داخله أو خارجه، كانت نجمةً ساطعةً فـي سماء الفنّ وقيثارة الشرق ووجه لبنان الحضاريّ سواءً فـي فنّها الغنائيّ أو السينمائيّ، فإذا أهملت الدولة فنّانيها وعظماءها فهي الدولة المراوغة اللامبالية بشعبها، فعلى المعنيّين بالسلطة فـي الدولة أن ينهضوا من سباتهم وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه قبل أن يصبح رهن المنون كما أصبح وديع الصافـي.
لن يغادرنا صوتك أو طيفك أيّها العظيم، سيكون اسم وديع الصافـي المحطّة الأساسيّة والمدرسة التي لا يمكن العبور إلى الفنّ إلّا من بوّابتها، حاول الكثيرون أن يقلّدوك، وبقوا لسنوات يتمرّنون كي يجيدوا ولو طبقة من طبقات صوتك الشجيّ، لكنّهم فشلوا، لأنّ الله سبحانه قد خصّك بهذه الميزة دون سواك، إذ مُنحت الموهبة التي كنت وفـيّاً لها فرعيتها حتّى الشوط الأخير، ويكفـي اعتراف أحد أشهر عازفـي القانون بأن لا يوجد وتر يلحق بمساحة صوت وديع الصافـي.
نم قرير العين أيّها العظيم..أيّها الإيقونة التي لم يجُد الزمان بمثلها، ذكراك فـي القلوب قبل كل (ذكرى سنويّة) الذكرى الطيّبة التي لا يمحوها تعاقب الأعوام، وإذا كنت قد رحت فـي طريق اللاعودة، فقد أبقيت لنا ما نردّده..(علله تعود علله..يا ضايع فـي ديار الله).
Leave a Reply