محمد العزير
من المتع القليلة التي تمنحها مهنة المتاعب للصحافي أو الكاتب تفاعل القراء مع ما يُكتب ويُنشر، خصوصاً إن كان التفاعل بناءً، ليس بمعنى المجاملة والاطراء وانما حين يأخذ شكل نقاش في موضوع عام يهم المجتمع الذي يتناوله المقال أو الموضوع الذي يطرحه. في هذه الحال يشعر الكاتب أن غلّته أثمن من المردود المالي وأزكى من الشهرة وأبقى من تسجيل موقف. الداعي إلى هذه المقدمة البيانية ردود الفعل على مقال «إنجاز لا بد من البناء عليه» في العدد قبل الأخير من «صدى الوطن» والذي يحمل رقم 1919، تاريخ 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022.
الملفت فيما تناهى إليّ من ردود أنها انقسمت إلى خطين يصلان إلى استنتاج واحد؛ يقول الخط الأول أن لا حاجة إلى مؤسسة عربية أميركية جديدة في ظل وجود لجنة العمل السياسي العربي الأميركي- أيباك – التي أثبتت فعاليتها الكبيرة في الانتخابات الأخيرة، فيما يرى الخط الثاني أن لا ضرورة لوجود مؤسسة متخصصة ما دام الجيل الجديد أثبت حضوره ووجود مؤسسة جديدة سيؤدي إلى انقسامات فئوية «كالعادة» وبالتالي قد يؤدي إلى إبعاد أو استبعاد الشباب المتحمس للعمل العام.
تقتضي الموضوعية الاعتراف بوجاهة كلا الرأيين، أو على الأقل النظر إليهما بجدية، لكن الالتفات إلى الإطار الكبير للصورة يقود بلا كثير عناء إلى نتيجة لا تتعارض مع الطرح الأول ولا تتفق مع الطرح الثاني، ولا تنفي الدعوة الأصلية في المقال المذكور، إلى المزيد من العمل المؤسسي.
لا أحد يجادل في فعالية «أيباك»، ولا ينكر دورها المميز خصوصاً في آخر ثلاث دورات انتخابية إلّا مغرض أو جاحد، ولطالما تناولت المقالات الانتخابية هذه المؤسسة وجهودها، غير أن دور «أيباك» في صيغتها الحالية لا يغطي كل المستويات المطلوبة، وهذا بالطبع ليس عيباً عليها ولا تقصيراً منها، فهي وبعد سنوات من التجربة والعمل الدؤوب بلغت النضج المؤسسي، ويُسجل لها أنها تلبي الأهداف التي وضعتها لنفسها بكفاءة عالية. يتركز نشاط «أيباك» على التواصل مع المرشحين والمنتخبين باستمرار، والتثقيف الانتخابي وحث الناخبين إعلامياً على التصويت…وهذه مهام جليلة لكنها ليست كل المطلوب.
متطلبات العمل الانتخابي الناجح معروفة وواضحة، فهناك حاجة إلى سياق مؤسسي مماثل يعمل على:
1– تكوين لوائح انتخابية تضم أسماء العرب الأميركيين المؤهلين للتصويت وكيفية التواصل معهم.
2– توثيق المشاركة العربية الأميركية في التصويت في كل دائرة لمعرفة مكامن القوة والضعف والتعامل معها.
3– تشجيع الطلاب والموهوبين على الانخراط في العمل العام والنشاط الإنتخابي وإعداد كوادر جديدة ليس فقط للترشح وإنما أيضاً لشغل المناصب الحكومية والمحلية الشاغرة، وأهم الروافد لذلك متابعة طلاب العلوم السياسية والقانون وتوفير منح دراسية للمتفوقين في هذين المجالين.
4– القيام بحملات دورية لتسجيل الناخبين.
5– تكوين بنوك اتصالات لدعوة الناخبين إلى التصويت يوم الإقتراع.
هناك أيضاً العامل الجغرافي، إذ أن «أيباك» فعّالة في ديربورن وديربورن هايتس وجوارهما في المقاطعات الثلاث التي تشكل منطقة ديترويت الكبرى، لكن المطلوب توسيع العمل المؤسسي إلى كل الحواضر التي يتواجد فيها العرب الأميركيون، وإن لم يكن العمل على المستوى الفدرالي ممكناً فأقله العمل في الغرب الأوسط من ويسكونسن إلى أوهايو مروراً بإيلينوي وإنديانا. وإذا كانت «أيباك» في وارد التوسع عمودياً وأفقياً على هذا النحو، لن ينافسها أحد، بل ستجد بعد ما حققته مؤخراً أن الميدان مفتوح لها على مصراعيه وأن الكثيرين توّاقون إلى العمل معها من أجل مستقبل عربي أميركي أفضل. غير ذلك، ما هو المانع من قيام مؤسسات مكملة وحليفة لها تتقاسم معها المهام والجهود؟
هذا في الخط الأول، أما الخط الثاني الذي يرى في أية مؤسسة مشروعاً فئوياً إقصائياً، فهو وإن كانت لديه مبررات قديمة تستند إلى تجارب معتلّة، ينظر إلى الأمور من زاوية ضيقة لا تعترف بالحقائق العربية الأميركية الجديدة.
نعم، في الثمانينيات من القرن الماضي، أيام عزّ العمل المؤسسي كان هناك خطان متوازيان من التأطير، الأول على المستوى الوطني وبعض المواضع الإقليمية والقائم على تبني هوية عربية أميركية تسمو على التصنيفات الأصولية المرتبطة بالدين والمذهب والوطن الأم، ويقودها أبناء الجيلين الثاني والثالث ممن اكتشفوا انتماءهم الكياني وتحمسوا له، والثاني يقوم على البدائيات في الانتماء والتي تشبه البصل؛ كلما نزعت قشرة بدت لك أخرى. وفي هذا المضمار، نشأت جمعيات وظهرت شخصيات –بعضها كاريكاتوري– على أساس البلد الأم، لتنتقل إلى نطاق أضيق مثل المنطقة أو المحافظة، ثم إلى البلدة قبل أن تستقر في العائلة التي لا تسلم من بدع الأجباب والأفخاذ. ولا يشذ في ذلك لبناني عن فلسطيني ولا يمني عن عراقي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان على الخط الأول المندهش من آليات الخط الثاني أن يتنازل له بسبب حاجته إلى الجمهور، والجمهور في حينه أسير العصبية التي دفعتها الردة الدينية إلى مداها الأقصى، وكان من الطبيعي في تلك الحال أن يصبح الكيد مفتاحاً للعمل العام، وأن يكون المجال واسعاً لشخصيات انتهازية وصولية وقحة لا تتردد في بيع أي موقف من أجل صورة مع مسؤول أو رخصة لبيع الخمور أو وكالة أو عقار. هذا النوع من السياسة انتهى. ففي الإطار الديمقراطي الراسخ لا مجال للتشبيح. شهدنا ذلك بأم العين أكثر من مرة خلال سنوات قليلة جداً. هناك جيل جديد لا تهمه مخاوفنا ولا تعنيه الولاءات القديمة لزعماء أهلنا، والأهم أنه يجمع بين أنفة العربي وعزّته وبين فرادة الأميركي وخصوصيته، وهذا الجيل أثبت كفاءته بجدارة، وأية مؤسسة ستقوم الآن ستكون بمواصفاته ولن تكون رهينة لأساليبنا القديمة.
ثمة أمر حيوي لا يفيد إنكاره ولا التقليل من شأنه، ألا وهو استثمار الانتهازيين وحديثي النعمة للفروقات الطبيعية بين العرب الأميركيين، فلا أحد منهم قرر أن يكون من أصل يمني أو لبناني أو موريتاني… لكن البعض من الطارئين على العمل العام، وللأسف معظمهم من الأثرياء الجدد بطرق مشروعة أو ملتوية، والمدفوعين من شخصيات وقوى عنصرية في أماكن الكثافة العربية الأميركية لأسباب تخريبية تفيدهم في مزيد من الشهرة، يحاولون التسلق على الخلافات الجهوية بين العرب الأميركيين وكأن ما تحصل عليه فئة منهم لها أسبقية في الهجرة وأفضلية في العدد مأخوذ من حصتهم المنصوص عليها في مكان لا يعرفه إلا الكيد العظيم.
العمل المؤسسي لن ينهي هؤلاء لكنه سيحد كثيراً من غلوائهم.
الدعوة في الأساس كانت لعمل مؤسسي، ولم تكن من أجل قيام مؤسسة جديدة. وحتى وإن قامت مؤسسة جديدة فليست لي فيها مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة، فأنا، والعياذ بالله من الأنا، بعيد إلى درجة مريحة للجميع.
Leave a Reply