شبط شباط ولبط، لكننا كالعادة لم نشعر برائحة الصيف فيه. اليوم كان آخر يومٍ منه وأبى أن يغادر إلاّ بالثلوج والغيوم، كما بدأ. ورغم البرد والثلوج في هذا البلد، فالحمد لله على نعمة الدفء والأمان فيه، والأسف كل الأسف لكل أهالينا البردانين في بلاد الشرق، والذين ما إن خرجوا من أزمة إلاّ ودخلوا بأخرى فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
شهر شباط هنا في أميركا، هو شهر السود، أو الأفروأميركان، الذين عانوا من سياسة التمييز في المطاعم والمراحيض العامة والباصات حتى منتصف القرن الماضي. وحسب مقولة الروائي الأفرو أميركي «جيمس بولدوين» إن الرئيس فرانكلين روزفلت أمر بالقاء القنبلة على هيروشيما، لأنه لم يكن بإمكانه أن يلقيها على حي «هارلم» في نيويورك كما كان يتمنى، حيث الصناديق الخشبية التي تحتوي صغار الأفارقة الحفاة.
أتاحت لي الفرصة مؤخراً زيارة متحف تشارلز رايت في قلب ديترويت، الذي يؤرخ عذابات الأفارقة الأميركيين من خلال معارض وندوات تثقيفية لكي لا ينسى هذا الشعب كيف أتى ومن أين وكيف عاش.
شاهدت عرضاً سينمائياً قصيراً عن جزيرة «غوري» في المحيط الأطلسي قبالة سواحل السنغال. في هذه الجزيرة التي كان الغربيون يسرحون ويمرحون فيها ويتاجرون بالعبيد الأفارقة ويشحنوهم إلى أوروبا وأميركا، كأنهم سقط المتاع. من خلال حصون ومعتقلات تحوي غرفاً ضيقة وأنفاقاً وأبواباً تؤدي إلى البحر مباشرة. كان يتم حشر الأفارقة فيها بعد إختطافهم، تمهيداً لتصديرهم عبر تجارة الرقيق، التي تقاسمت عوائدها شركات غربية على مدى ثلاثة قرون (حتى نهاية القرن التاسع عشر) شهدت أبشع التنكيلات ضد الإنسان الأفريقي، الذي عانى من الأغلال وعمليات الخطف والتخزين والتعذيب والشحن البحري وتفريغ «وكبّ» هؤلاء المساكين على وجوههم في المناجم والمزارع، بعد أن أفلتوا، لسوء حظهم، من الموت في رحلة شاقة وطويلة مقيدين بالسلاسل الثقيلة ومحشورين في سفن معّدة للبضائع.
وحسب مقولة لـ«توماس بنكهام» في كتابه «التزاحم نحو أفريقيا» إنه كان يتم شحن الإفريقي وإستعباده تحت سقف ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف «سي» اللاتيني وهي: christianity, civilization, commerce يعني: مسيحية، حضارة وتجارة. ولا يختلف إثنان إنه لم يكن صادقاً من هذه الشعارات إلاّ الشعار الأخير، وهو التجارة. فلا حضارة ولا دين عند حثالة من تجار كانوا يعمدون إلى خطف أسر كاملة ثم بيع أفرادها بالمفرق في دول مختلفة.. تجارة تجزئة كان الهدف منها أن لا تلتقي الأسر ثانية.
نهاية الفيلم تؤكد أن ثقافة البيض، وعلى مدى ثلاثة قرون، مارست شتى أنواع التعذيب الوحشي على الإنسان الأفريقي الذي إجتُث من أرضه وتشرد عن أهله. وفرضت عليه لغة أخرى ودين آخر وإسم آخر وثقافة أخرى بترت صلته بكل عاداته الأفريقية، أبدلت ثيابه، وأطاحت بغنائه، وغيّبت أساطيره…
ولكن رغم رياح العنصرية التي كانت تلفحه بسمومها أينما تطلع، إستطاع هذا الإفريقي أن يثور ويتحرّر من نير العبودية والعنصرية حتى حكم رجل إفريقي البيت الأبيض. والحقيقة أنّي زرت أماكن ومدارس وتجمعات للسود هنا في ديترويت، وكانت تضم ملصقات وبوسترات للعديد من الرواد والزعماء السود، منهم علماء وفنانون ورياضيون. لكنني لم أر ولا ملصقاً واحداً للملاكم محمد علي كلاي، الذي فاز كأميركي، ببطولة العالم للملاكمة ثلاث مرات، ولا للويس فرقان، أو مايكل تايسون، أو بعض لاعبي كرة السلة المتميزين. لم تكن لدي الجرأة على السؤال، لماذا؟؟ وهل لأنهم مسلمون مثلاً؟؟ وهل من عانى من سنين التفرقة والعنصرية بسبب لون البشرة، يمكن أن يمارس التفرقة والعنصرية على بني جنسه بسبب المعتقد الديني؟؟
Leave a Reply