د. جيمس الزغبي
تعرض الأميركيون الأسبوع الجاري لصدمة أخرى بسبب عملية قتل جماعي مروّعة. ففـي شارلستون بـ«ساوث كارولينا»، دخل شاب أبيض مصاب بداء الكراهية العنصرية إلى كنيسة «إيمانويل» التاريخية، وجلس لنحو ساعة، قبل أن يخرج سلاحه الناري ويقتل تسعة أميركيين أفارقة أبرياء من أتباع الكنيسة. ومرة أخرى أطلّت أمراضنا الوطنية من العنصرية والعنف المسلح برأسها القبيح، لتوقظنا ولو للحظة، من سباتنا الجماعي العميق.
ولأننا تجاهلنا لفترة طويلة استمرار هذه الأمراض السامة، لا نزال نشعر بتبعاتها، إذ بلغت معدلات القتل لدينا أعلى مستوياتها بين دول العالم المتقدم، وكذلك أيضاً فـي النزاعات الاجتماعية. ويشير أحد المؤشرات على سبيل المثال إلى أن كندا تأتي فـي المرتبة السابعة، بينما تأتي الولايات المتحدة فـي المرتبة الـ94!
وتبدو الإحصاءات كالصاعقة، فخلال العام الماضي، وقعت 16 ألف جريمة قتل فـي الولايات المتحدة، 70 فـي المئة منها جرت باستخدام أسلحة نارية. ويزيد هذا الرقم على ثلاثة أضعاف عن عدد ضحايا حرب العراق بأسرها. وهو يعني حدوث 300 جريمة قتل أسبوعياً، وأكثر من 40 يومياً. وبعضها جرائم «ذات طبيعة عاطفـية» وبعضها يحدث أثناء ارتكاب جريمة أخرى. وفـي حين تطلق مثل هذه الأرقام صيحة إنذار، لكن لا أحد يلقي لها بالاً.
غير أن ما يلفت انتباهنا أكثر هو عمليات إطلاق النار الجماعي، خصوصاً أشدها مأساوية. ولكن من المأساوي هنا أيضاً أننا نعاني فقداناً حاداً فـي الذاكرة. ففـي غضون أيام قليلة بعد أن تكون أعيننا شاخصة أمام أجهزة التلفزيون، ونعضّ على أناملنا من أعمال العنف المروعة، سرعان ما ننسى أسماء ووجوه الضحايا وقاتليهم. ولو تذكرنا أي شيء، ستكون مواقع الجرائم: كولومبيا وفـيرجينيا وتوسون، وفورت هود، وأورورا، وأوك كريك، ونيوتاون، والآن شارلستون.
وعلى رغم عظم تلك الجرائم، إلا أن الرعب لا يلازمنا طويلاً. وتغيب الجرائم عن وعينا، ولا نتذكرها إلا عندما تحدث عملية القتل الجماعي التالية.
وكانت تلك المدن التي ذكرتها مواقع لمذابح كبرى، إلا أن الواقع هو أن «عملية إطلاق النار الجماعي»، التي تُعرّف بأنها حادث إطلاق نار يتعرض خلاله أربعة أفراد أو أكثر للقتل أو الإصابة، أكثر شيوعاً من رغبتنا فـي الإقرار بذلك. وأثناء فترة العامين ونصف الماضية، قُتل زهاء ألف أميركي، وأصيب أكثر من أربعة آلاف فـيما يزيد على 750 عملية إطلاق نار جماعي. ويعني ذلك أن حادثتي إطلاق نار جماعي تقعان كل ثلاثة أيام.
وعندما تظل معدلات جرائم القتل وإطلاق النار الجماعي فـي الولايات المتحدة مرتفعة مقارنة ببقية دول العالم، فمن الواضح إذن أنه ليست لدينا مشكلة فحسب، ولكننا مصابون بمرض يقتلنا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وعلى رغم ذلك، نخرج من عملية قتل جماعي إلى أخرى، ثم نستريح يوماً ونعاود الكرّة من جديد.
وفـي أعقاب كل مرة، يتعهد القادة السياسيون باتخاذ تدابير للسيطرة على الأسلحة، وتوزيعها واستخدامها، قبل أن تعاود جماعات الضغط القوية المؤيدة لتجارة الأسلحة ممارسة نفوذها من جديد، فترتعد فرائص أعضاء الكونجرس، ولا شيء يحدث. وفـي اليوم التالي لحادث «شارلستون»، وقف أوباما الذي بدت عليه علامات التوتر أمام منصة البيت الأبيض، يتحدث عن أمراضنا القومية للمرة السابعة منذ أن دخل المكتب البيضاوي، وقال فـي جزء من كلمته:
«تعيّن عليّ الإدلاء ببيانات مثل هذه مرات عديدة، وتعين على مجتمعات مثل هذه تحمّل المآسي مرات كثيرة، ولكن دعونا نكون واضحين، ففـي مرحلة ما، علينا كدولة أن نأخذ فـي الحسبان حقيقة أن هذا النوع من العنف الجماعي لا يحدث فـي الدول المتقدمة، ولا يقع فـي أماكن أخرى بمثل هذه الوتيرة».
وأضاف أوباما: «إن حقيقة أن يحدث ذلك فـي كنيسة للسود يثير بوضوح تساؤلات حول الجزء الأسود من تاريخنا، وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فـيها كنائس السود لهجمات، ونعرف أن الكراهية بين الأجناس والعقائد تمثل تهديداً خاصاً على ديمقراطيتنا ومُثُلنا».
وعلى رغم أن البعض يزعمون بسذاجة أن انتخاب أوباما يساعد الولايات المتحدة على تجاوز انقسامها العنصري، فإنه يبدو أن له أثراً عكسياً تماماً. وكما كانت الحال فـي خضم الكساد الاقتصادي الكبير، أصيبت قلوب بعض الأميركيين البيض بالمرض عند رؤية أميركي من أصل أفريقي يدخل المكتب البيضاوي. وفـي غضون العام الأول من رئاسة أوباما، زاد عدد جماعات الكراهية التي تعمل داخل الولايات المتحدة بنسبة تزيد على 40 فـي المئة. وحدثت قفزة مأساوية فـي جرائم الكراهية ضد الأميركيين السود.
وعلى رغم رسائل التذكير المتكررة بأن لدينا مشكلة مزمنة مع العنصرية، لا نزال نتجاهل المشكلة أو نحاول إنكار تأثيرها المزعج والمتغلغل فـي حياتنا. وفـي كثير من الأحيان ننجح فـي تأجيلها إلى أن يوقظنا إطلاق الشرطة النار بصورة مأساوية أو جريمة كراهية تالية.
Leave a Reply