«شبه الوطن» اللبناني «من دون دف بيرقص»، ويعوم على شبر ماء، كما يقول المثل العامي، ذلك أنه بالرغم من الإهانة السعودية لسيادة البلد ورئيسه وكرامة لبنان واقتراف بن سلمان عملاً إرهابياً يضاهي في شناعته جريمة قطاع الطرق عبر اعتقال رئيس حكومة لبنان ومصادرة حريته مع عائلته وابتزازه وإجباره على الإستقالة وربما ضربه وتعذيبه كما فعلت «بلاك ووتر» مع باقي الأمراء المحتجَزين بدليل وصوله وهو يعرج إلى فرنسا، كل هذا أصبح نسياً منسياً بعرف الدولة اللبنانية بمجرد إيفاد مبعوث سعودي ولقاء أركان الدولة في خطوة وصفتها جريدة «الحياة» بأنها أعادت الروح للعلاقات مع لبنان. عن جد؟
هل لبنان رخيص لهذا الحد لكي يتكفل موظف سعودي بإزالة أكبر قطوع دبلوماسي غير مسبوق في التاريخ وغريب من نوعه في التعاطي بين الدول المتحضرة من حيث صلفه وصفاقته وانتهاكه لحرمة لبنان، ومن دون تقديم اعتذار عما حصل ولا حتى مجرد تبرير حتى يكون الناس على بينة فيحكموا بأنفسهم؟
سعد الحريري نفسه لم تسعه فرحته بالدعوة لزيارة بلده الأول فلم يحتمل إنتظار خروج الموظف السعودي العلولا حتى طار بنفسه إلى الرياض للقاء محتجِز حريته، ولكن هذه المرة مع «محرم» كما ذكر تلفزيون الجديد هو وزير الداخلية المشنوق. الحريري ربما سعى لكي يصلِح ما أفسد الدهر بينه وبين بن سلمان داخلاً ومستغِّلاً باب الإنتخابات النيابية الواسعة التي يبدو أن بني سعود يعلِّقون عليها أهمية كبيرة، بدليل وجود المشنوق من ضمن الوفد الحريري، بهدف خلق محور داخلي رديف لثورة «الزنزلخت» معادٍ للمقاومة ومتماشٍ مع مخطط إسرائيل والغرب الخارجي لتشويه صورتها ووصمها بالإرهاب والتهيئة لشن الحرب عليها وعلى لبنان وسوريا معاً. كما أن الزيارة من وجهة نظر الحريري مناسبة لكي يستفسر الحريري ربما عن انتهاء حصرية التمثيل السعودي به فقط، وأخيراً ربما تساعده الزيارة على إيجاد حل لأزمة «سعودي أوجيه» والحصول على المال اللازم لتمويل الانتخابات، أما بحصة الإعتقال التي كان سيبقّها الحريري فقد تفتت بـ«ليزر العلولا»، منيح؟
وخلال وجود العلولا في بيروت أجمع المحللون على أن رجل السعودية الأول في لبنان لم يعد سعد الحريري بل سمير جعجع الذي لم يحل أزمة العلاقة الغامضة معه بعد طعن جعجع للحريري بالظهر لدى بني سعود وتسببه باحتجازه هناك. وسر علاقة بن سلمان وتفضيله لجعجع هو في الواقع أغرب من الخيال وحتى من علاقته العلنيه وتحالفه مع إسرائيل. فتاريخ جعجع و«القوات» وقبلهما بشير الجميل لم يحمل إلا الحقد والعنصرية ضد الشركاء في الوطن من باقي الطوائف فكيف بدول الخليج وأولها السعودية التي هي بنظر الفينيقية الشوفينية اللبنانية دولة متخلفة من العصر الحجري؟ ومن يذكر قيام ميليشيا الكتائب في بداية الحرب الأهلية بمصادرة وتدنيس شاحنة تحمل مصاحف في الكحالة والتي أزعجت بني سعود يومها ولو أن علاقاتهم تطورت فيما بعد مع ميليشيا اليمين وأصبحوا بالتوازي مع أنظمة عربية رجعية وإسرائيل يمدونها بالمال والسلاح؟ من يمكنه أن يقنع مواطناً لبنانياً عايش فترة الحروب الأهلية أن تراث بشير الجميل وعقيدته وعقليته هو وتلميذه النجيب تكنُّ أي ذرة من الإحترام لبني سعود؟
لكن بني سعود لا يهمهم اليوم لا الدين ولا المباديء بل المصالح الضيقة، حتى مفتيهم «المنعور» أصبح يفتي بجواز سماع الموسيقى!
ولعل سر تحالف بن سلمان مع جعجع، المُدان بقتل رئيس وزراء لبناني سابق وأحد أعمدة الطائفة السُّنية الكريمة، قد يعود إلى تكراره مراراً لهم بأنه قادر عسكرياً على تجنيد عشرة آلاف مقاتل للوقوف في وجه المقاومة كما أسلفنا سابقاً وهذا حلم يدغدغ بني سعود منذ فشل «المستقبل» بالمهمة فيما عُرف بتأديبة السابع من أيار!
العلولا هذه المرة لم يستخدم الشعار السعودي الممجوج والمضحِك بأن مملكته تقف على مسافة واحدة من الجميع لكنه فعل ذلك عملياً عبر جدول زياراته رغم أن مهمته كانت لشد عصب أتباع السعودية في لبنان ومحاولة الإيقاع بين فريق المقاومة وعزلها عن باقي الفرقاء. وباستثناء فشله الأكيد في التفريق بين حركة «أمل» و الحزب، إلا أن مهمات الموظف السعودي الأخرى قد تكللت بالنجاح لأن بلداً فاقداً للسيادة لا يملك كرامة وطنية.
وحظي الحريري بلقاء سلمان في مكتبه ثم بسجَّانه السابق بن سلمان الذي سبق أن صرَّح بما معناه أن اعتقاله للحريري أسدى له خدمة ووضعه اليوم هو أفضل الآن! أهذا معقول الذي يجري من دون أن يرفع عاقل عقيرته بالكلام المُباح؟ هذا لا يحدث إلا في أفلام الآكشن أو الأفلام الهزلية السوريالية. وبعد كلام بن سلمان انهالت طلبات وحوش الساسة في لبنان على ولي عهد مملكته لكي يخدمهم عبر سجنهم في فندق «ريتز» الملكي!
مشكلة سلمان وفلذته أضحت أكبر اليوم لأن الحريري رغم عنترياته الكلامية بحق المقاومة، بسبب الإنتخابات، لن يتمكن من السير بمخطط جعجعي صرف ضدها لعدة أسباب أولها عدم ثقته الكاملة بجعجع وحرصه على عدم فرط التحالف الجديد مع العماد عون الذي مازال حليفاً موثوقاً للمقاومة وأي حسابات غير مدروسة قد تطيح به من رئاسة الحكومة. وكالعادة، السياسة السعودية ليست غريبة عن الفشل والخيبة في هذا الميدان كما في ميادين أخرى. ويجدر ذكره هنا أن المبادرة السعودية الجديدة ترافقت مع تجدد التهديدات الإسرائيلية التي طالت الإعلان عن نية إغتيال السيد نصرالله. ورغم أن هذا ليس التهديد الأول من نوعه ولو كانت تل أبيب قادرة على هذا الفعل لما قصَّرت مع علمها أن هذا الإغتيال سيؤدي لتدمير نصف الكيان، إلا أن المقصود منه هو تكامل التنسيق السعودي الإسرائيلي الأميركي في محاولته للنيل من المقاومة. كما أن هذا التهديد هو علامة ضعف لدى الإسرائيلي الذي أخفقت مخابراته، في بلد مزروع بالعملاء، بتصفية مسؤول «حماس» في مخيم عين الحلوة.
الكثير من المعلقين افترضوا جدَلاً عكس الآية ووضعوا إيران مكان السعودية من حيث اعتقال مرجع سياسي لبناني ثم إرسال مندوب حكومي بشعار العفو عن الماضي، فكيف ستكون ردة فعل مرتزقة بني سعود من إعلاميين وسياسيين؟
بل أن «شتلة» الوطن لا زال إلى اليوم يرفض العرض الإيراني بتزويد لبنان بأسلحة متطورة للوقوف في وجه الاعتداءات وردع العدو الإسرائيلي ومده بالكهرباء 24 ساعة يومياً في بلد هو في آخر قائمة الدول من حيث تقنين الطاقة وحتى خلف الدول الأفريقية الفقيرة، حيث كشفت «الأخبار» أن ثلث اللبنانيين محرومون من الأساسيات وافصح تقرير آخر أن 0.5 بالمئة في لبنان يملكون كل الثروات! في زمن الإقطاع السابق كان المالكون الفاحشون يتخطون خمسة بالمئة!
ولكن لننسى العروض الإيرانية التي قد تجعل من الجيش اللبناني قوة رادعة مما يعزز وجوده ويتولى هو دور المقاومة إذا كان مُدَّعو السيادة فعلاً جادين في شعار «لبنان أولاً»، وماذا عن العرض الروسي؟ ألم يعقد ميشال المر صفقة طائرات حديثة مع موسكو؟ أين أصبحت وما مصيرها؟ أم أن الجيش لا يستعمل إلا أسلحة كشفية أميركية لا تستقيم لحظة أمام العدو؟ لقد أصبح الأمر جلياً أن واشنطن لن تزود لبنان بأسلحة تواجه حليفتها إسرائيل خصوصاً في عهد ترامب فماذا تصنع الحكومة اللبنانية؟ وهل تبقى رهينة المحبسين: أميركا والسعودية!
إن التهافت على «المكرمة» السعودية الجديدة من قبل لبنان أقل ما يُقال فيه أنه معيب ومشين بحق وطن وشعب لم يمض على تحقيره سعودياً فترة ستة أشهر، ولكن ماذا نتوقع من بلد رفعته زنود المقاومة على الأكف ومنحته العزّة والشرف والحريّة من الإسرائيليين والتكفيريين والإرهابيين وتجد من يحاول النيل منها أكثر من العدو نفسه؟
Leave a Reply