بقلم: فاطمة الزين هاشم
كانا متقاربيْن في العمر والمستوى الإجتماعي، يغمرهما الحب المشترك إلى درجة العشق، وكان طافحاً حتّى ليبدو ظاهراً على محيّاهما، لايخفى على أحد، مضت سنوات وهما يعيشان ذلك الحبّ الذي أراداه أن يفضي إلى عشّ الزوجيّة الدافيء، فيجمعهما مدى الحياة.
اضطرّت الظروف، ذلك المحبّ ركوب السفر نحو بلدٍ آخر، للعمل في وظيفةٍ ذات مردود مادّي جيّد، لبناء مستقبلٍ يليق بذلك الحبّ الكبير، فأخذ يواصلها عبر الهاتف، ويراسلها مضمّناً رسائله بصورٍ تجمعه مع زميلاته وزملائه في العمل، وصديقاته وأصدقائه خارج محيط العمل، ليطمئنها على غربته، ظانّاً أنّه يخبرها على أنّه بخير وليس لوحده، لكنّ الأمور أخذت منحىً آخر من جانبها، حيث بدأ الشكّ يراودها وينهش قلبها، فاستحوذت الغيرة العمياء على حواسّها، رغم أنّه أفهمها بأنّهم أصدقاء يأنس إليهم في وحدته وغربته.
لكنّها أبت أن تصدّقه، فبدأت تكيل له الإتّهامات بالخيانة ونقض العهد الذي بينهما، بعد أن ملأت المسافة بينهما بجليد الجفاء، وقد حاول تغيير نظرتها له وإعطاءها جرعات من الثقة والطمأنينة، عبر الهاتف، وأقسم لها أنّها متربّعة على عرش قلبه، ملكة متوّجة لا تنافسها أيّة أنثى، فلم تفلح محاولاته، لأنّ الغيرة المرضيّة تغلغلت في شرايينها ونخرتها حتّى العظم، ممّا اضطرّته إلى الإنقطاع عن عمله، عائداً إليها، محمّلاً بالهدايا الثمينة وبنفس جوهرة القلب اللامعة بحبّها، وما أن فتحت الباب حتّى أخذها بالأحضان وراح يقبّلها ليطفيء نيران شهور الفراق بلحظةٍ واحدة، ذلك أنّ القبَل وحدها القادرة على أن تعيد إلى الإنسان زمناً أفلت منه.
هي أصبحت دائمة الإشتعال، تحاول أن تخفي لهيب الغيرة، جلست بقربه، تداري وقع المفاجأة والإرتباك، فانهارت عليه بوابلٍ من الأسئلة، بلؤمٍ نسائيّ وتصرّف بوليسيّ، كأنّما أجلسته على كرسيّ الإعتراف الذي يكشف الكذب، آخر صرعات التكنولوجيا، من قبيل «مع من كنت تمضي وقت فراغك؟ وعلى من تعرّفت؟ وكم يدوم الوقت؟ وأين؟ ومتى؟ ولماذا؟.. إلخ»، فيما هو يحار كيف يردّ على امرأةٍ تطوّقه باعتراف يأتي على مقاس أسئلتها، في حين أنّه بريء من تهمة الخيانة.
انتابته أحاسيس متلاطمة، لأنّها لا تصدّقه إلّا عندما يكون تصديقها باعثاً لإيلامه، فقد صوّبت عليه جميع أسلحة الدمار الشامل، لكنّه ركن إلى الصمت، ولاذ به إلى أقصى مداه، محاولاً العبث بخصلات شعرها، كأنّه لم يسمع شيئاً من استفزازاتها واتّهاماتها له بالخيانة العظمى، نظر إليها وفكّر قليلاً، ثمّ سأل نفسه: «كيف يمكن لي أن أرتبط مع هكذا إنسانة أصبحت غريبة الأطوار؟ فإذا كان حاضر العلاقة متوتّراً إلى هذه الدرجة من الحدّة، فكيف ستصبح بعد الزواج»؟
انتفض وأصبح أشدّ حزناً من أن يبكي، لحظتها شعر بالندم، لأنّه أضاع وقته الثمين في محاولة إقناعها وإرضائها، وجرّه الندم إلى مراجعة موقفه من ذلك الحبّ الذي أفضى إلى تعاسته، لاسيّما وإنّ هناك في مجرّة الحبّ من يجد التي تضيء سماء حياته وتجعله سعيداً، وفكّر في أنّ عليه أوّلاً البحث في كيفيّة إخراج تلك المريضة بالشكّ، من تلابيب ذاكرته، ويشفى من إدمانه على حبّها، لأنّ سعادته الموعودة أصبحت تحمل بين طيّاتها بذور تعاسته الآتية فيما لو استمرّ على علاقته بها، فانهار ذلك الحبّ الكبير، حيث فارقها وابتعد عنها إلى الأبد.
الغيرة حالة عاطفيّة طبيعيّة في الحبّ، لكن بالقدر المعقول، وعلى أن لا يصل إلى تدميره في أيّة حال، لأنّ كلّ شيء يزيد عن حدّه ينقلب ضدّه، فحذارِ أيّها المحبّون من الوقوع في فخّ الغيرة المظلم الذي لاتحمد عقباه، حيث تجرّ الغيرة أذاها إلى الطرف الآخر، وتجرح مشاعره، وتتسبّب في التذمّر ومن ثمّ الإبتعاد، مهما كانت المشاعر ملتهبة، ومهما كان للحبّ من العمق، والترسّخ في القلب.
Leave a Reply