إذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفـا
أَبَيْنَـا أَنْ نُقِـرَّ الـذُّلَّ فِيْنَـا
وَرِثْنَـاهُنَّ عَنْ آبَـاءِ صِـدْقٍ
وَنُـوْرِثُهَـا إِذَا مُتْنَـا بَنِيْنَـا
عمرو بن كلثوم
توطئة:
من قول جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الى نجاشي الحبشة «أَيهَا الملِك، كنا قوما أَهْل جاهلية، نعبد ُ الأَصنامَ، وَنَأْكل الْمَيتةَ، وَنَأْتي الْفواحش، وَنَقطع الأَرحام، وَنُسيء الجوار، وَيأْكل الْقوِي مِنّا الضّعيف، وَكُنّا على ذلكَ حتّى بعث اللَّه تَعالَى إِلَينا رسولا منَّا، نعرِف نسبه وصدقَه وَأَمانَته وعفافَه، فَدعانا إِلى اللَّهِ تَعالى لِنُوَحّدَه وَنَعبُده، وَنَخلع مَا كُنّا نعبد نَحْنُ وَآباؤُنا مِن دونِه مِن الْحِجَارة وَالأَوثَان، وَأَمرنا بِصدقِ الحديث، وَأَداء الأَمانة، وصلَة الرّحم، وحسن الْجوَار، وَالْكفِّ عن الْمحارِم وَالدِّماء، ونَهانا عن الْفحش، وَقَولِ الزّورِ، وَأَكْلِ مالِ الْيتِيم، وَقَذف الْمحصنة، وَأَمرَنا أَنّ نعبد اللّه وحده ولا نشرِك بِه شَيئاً، وَأَمرنا بِالصّلاة وَالزَّكاة وَالصِّيام… فَصدَّقْنَاه وَآمَنّا بِه وَاتَّبَعنَاه على ما جاء بِه من اللَّه عزّ وجلّ».
فأين العرب الآن من كل ما أمروا به من الصدق والأمانة وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء وقول الزور؟؟
إنقلاب المفاهيم
تتكاثر الأسئلة ولا تجد أجوبة، الزمن معاصر، والمتسائلون كثير من أبناء الشعوب العربية والأسئلة هي: ما الذي يجري في واقعنا ولماذا يبدو كل ما يدور حولنا غريب عنا، عن قيمنا عن تراثنا وعن مفاهيمنا؟ هل هي نهضة من سبات سينبلج صبحها بعد أن اشتد ظلامها؟ أم هي سقطة أمّة في غياهب مُظلمة تلف مصيراً لم يعد يظهر منه إلاّ ملامح لأشباحٍ أو خفافيش ليلٍ تقتات من الجيفة التي أزكمت روائحها الآفاق؟ أم هو مصير لم يعد ملكا لأهله عندما باعه بعض أهله بسراب وقبض من الريح، بعد أن صدّق أهله ذلك البعض «منهم» عندما كذبوا عليهم وادعوا أنهم الفرسان النشامى الذين سيأتون على جيادهم ليقودوا اهلهم الى حيث قادهم كليب وعنترة والقعقاع وطارق بن زياد وصلاح الدين والظاهر بيبرس، فهل صدقوا وعدهم وأعزوا أهلهم أم نكصوا ونكثوا؟
لنرى ما كان من قيم ومفاهيم عرب النخوة، وما يحاول ان يروج له بعض «القادة» من المفاهيم اليوم. الشعر ديوان العرب وفيه دونت ايامهم وقيمهم والمفاهيم التي قادت حياتهم، وهنا نقتطف بعضاً من شعر عمرو بن كلثوم الذي يعكس بعضاً من القيم العربية التي كانت تقود حياة الناس آنذاك من شجاعة وأنفة ورفض الذل وإصرار الآباء وعملهم على توريث تلك القيم إلى أبنائهم وحرصهم على استمرارها مرجعا لمن يأتي بعدهم ، فيقول:
إذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفـا
أَبَيْنَـا أَنْ نُقِـرَّ الـذُّلَّ فِيْنَـا
وَرِثْنَـاهُنَّ عَنْ آبَـاءِ صِـدْقٍ
وَنُـوْرِثُهَـا إِذَا مُتْنَـا بَنِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ
تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
ويرد على عمرو بن كلثوم بعض من عرب عصرنا الحاضر فيقولوا «أغلبنا صار نعاجاً».
نعم، قيلت بكل وضوح ودون أيّ لبس!! أليس طبيعياً أن يشعر الكثير من العرب بالغربة وعدم فهم ما يجري أمام الطعن الواضح في قيمهم التي عاشت لقرون؟ أليس صادما أن تنقلب المفاهيم انقلابا جوهريا وتتحول فيها أمة ذات تاريخ وأمجاد إلى أمة نعاج؟ وهل يحق لأيّ فرد مهما كان موقعه أن يمحو بلسانه تراث أمّة امتد لقرون؟ وهل كان ذلك مجرد رأي شخصي أم محاولة لتأسيس لثقافة ومفاهيم جديدة في مقابل ثقافة ومفاهيم عاشت لسنين وكانت مصدر فخر وثقة لشعوبها؟
جامعة الحروب العربية
استمر دور الجامعة العربية منذ تأسيسها في العام 1945 دورا بروتوكوليا لا يتعدى الدعوة الى الاجتماعات وتنظيم المؤتمرات التي كانت تتوالى وتتشابه، تقر فيها القرارات وتظل حبيسة الادراج ولا نتذكر مرة اقرت فيها الجامعة قرارا لصالح الشعوب وقع تفعيله كتنمية التجارة بين اقطارها وايجاد صناديق لتنمية دولها الفقيرة تخضع للقوانين و لا تخضع لأمزجة الحكام المانحين وفتح الحدود امام العرب للتنقل والعمل والاستقرار.
على العكس من كل ذلك أغلقت حدود الدول العربية الغنية في وجه عرب الأقطار الفقيرة وعوملوا كغرباء وفق نظام الكفيل الذي سلب كثيرا من حقوق العمال العرب وقيد حركتهم، ولم تفعل الجامعة أي شيء من اجل تغيير هذه السياسات التمييزية. ولم نرَ تفعيلاً لقرارت الجامعة العربية إلاّ عندما تكون قرارات ضد شعوب المنطقة أو قرارات لشن حروب ضد العرب أو لتدمير دولة من الدول الاعضاء عند ذلك تسهل الجامعة الأمور عبر اقامة المؤتمرات واصدار القرارات والاسراع في تنفيذها كما وقع في ليبيا. وخلنا بعد الدمار الهائل الذي لحق بليبيا أن تُراجع الجامعة سياستها وتعود الى جوهر مهمتها «كمحضر خير» ومؤسسة للتوفيق بين اعضائها، إلاّ أنّ ذلك لم يحصل واستمرت الجامعة العربية وفيّةً لتاريخها في إشعال الحروب. وفي الوقت الذي كان يُفترض فيه نزع فتيل الحرب في سوريا قامت الجامعة خلال «القمة» الأخيرة التي استضافتها الدوحة بالسماح للدول العربية بتسليح المعارضة السورية، مما يعني مزيداً من التدمير وصب الزيت على النار في حرب الأهل.
دفعت السياسة التي انتهجتها الجامعة العربية كثيراً من المراقبين للشأن العربي الى التساؤل: ألَم يكن من الأفضل للعرب عدم نشأة هذه المنظمة التي كانت خنجرا قطّع كل الروابط والوشائج الأخوية بين أقطارها ولم تساهم في اغلب تاريخها إلاّ في «تشريع» مزيد من الفرقة والصراعات المدمرة بين الأشقاء؟
أوروبا المريضة
تبدو أوروبا حريصة على القوانين التي تخص البيئة في بلدانها حيث تشدد القوانين ضد أي تجاوز يمكن أن يمس بتوازن البيئة أو يكون سببا في تلويث المحيط هناك، واعتقد البعض أنّ هذا الحرص هو موقف مبدئي بخصوص موضوع البيئة في العالم. ولم يشك احد أنّ الاتحاد الأوروبي لا يمكن ان يقبل التعامل مع اي جهة تتجاوز القوانين الخاصة بالبيئة، إلاّ أن ما حصل في الفترة الاخيرة كذّب ذلك. وحسب وسائل الاعلام التي تناقلت الخبر عن اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد في لكسمبورغ، صُدم الكثيرون حيث تبين أنّ أوروبا لا تعنيها سلامة البيئة في البلدان العربية، بل كل ما يهمها هو شفط خيراتها وخاصة ثرواتها المنجمية والبترولية. فكيف ذلك؟
لقد وافق وزراء خارجية أوروبا حسب نفس المصادر بالسماح للمستوردين الأوروبيين بشراء النفط من الجماعات المسلحة بسوريا. وإذا تجاوزنا نقطة الاعتداء على القانون الدولي كون الدولة السورية لا تزال عضواً في الامم المتحدة، فإنه لا يمكن تجاوز نقطة تغاضى أوروبا عن ما يمكن ان تحدثه سياسة شراء بترول سوري من جماعات غير نظامية من كوارث طبيعية بدأت تظهر آثارها والتي قد تسبب تلوثاً في الارض مما يضر بالفلاحة السورية وبغذاء الشعب السوري كما انها ستحدث أمراضا كثيرة خاصة بالنسبة للأطفال والحوامل والشيوخ نتيجة انتشار الغازات السامة في الهواء.
وقد عبرت بعض المجموعات المعارضة عن المخاوف من أن يساهم هذا التشجيع في تنافس الجماعات المسلحة في استمرار تكرير البترول بطرق تقليدية بعد افتقاد مراكز التكرير للتجهيزات والمعدات التي وقع تفكيكها وسرق الكثير منها، مما دفع بالمعارضة المسلحة التي سيطرت على بعض آبار البترول من إعتماد طرق بدائية للتكرير ساهمت في تلويث البيئة المحيطة بآبار النفط من مزارع وبساتين وينابيع مياه وأنهار.
ووفقا لأحصائيات قدمها وزير النفط السوري سليمان العباس، فقد توسعت الأخطار البيئية خاصة بعد أن تم اشعال تسع آبار في شرق سوريا مع استمرار التكرير التقليدي من آبار أخرى في نفس المنطقة وبيعها في تركيا. هذا بعد أن سرقت محاصيل القطن والقمح السوري وفككت من قبل معامل ونقلت الى تركيا كذلك ضمن شبكات تقوم بتصريف المسروقات السورية هناك.
ورغم الصيحات التي اطلقها مدافعون عن البيئة فإن أوروبا لازالت غير مكترثة حيث نقلت مصادر عن كرستالينا جورجييفا مفوضة الاتحاد الأوروبي للمساعدات الانسانية قولها «أي شيء يمكن أن يساهم في إتاحة مزيد الموارد للمتضررين من الأزمة.. هو موضع ترحيب»، ولم يقف الامر عند مفوضية الاتحاد، بل أكد الوزير البريطاني للخارجية نفس التمشي بالقول «من الضروري أن نبعث برسالة تفيد بأننا مستعدون للمساعدة بطرق أخرى.. بكل السبل الممكنة بما فيها السبل التي تضيف الى التمويل الخاص بالمعارضة». وتسيطر جبهة النصرة على أغلب حقول النفط في دير الزور والحسكة وفق تقارير لوكالة الصحافة الفرنسية نقلها المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وتعتبر القوانين الأوروبية بخصوص التلوث البيئي الأكثر تشددا في العالم بأكثر من ثلاثمائة قانون في العقود الثلاثة الأخيرة، كما تتصف شروط قبول الاعضاء في الاتحاد بضرورة تنفيذ قوانين منع انتشار التلوث البيئي.
فهل يمكن أن نقول أن أوروبا مريضة بعد أن تنكّرت لقيمها في حماية حقوق الانسان والبيئة وتغاضت عن كل الشروط البيئية الصارمة عندما تعّلق الأمر بالبلدان العربية؟ هل من أجل المصالح تضرب عرض الحائط بكل مواثيق حقوق البشر في بيئة نظيفة؟ أم أن الانسان العربي كائن دوني لا يهم ان نلوث بيئته مادام بعض قادته ارتضوا له ذلك مصيرا؟ والسؤال الأكثر إلحاحاً: ألا يعلم حكام العرب أنهم يعيشون في نفس البيئة مع شعوبهم وأن آثار التلوث تدركهم أينما كانوا، حتى لو كانوا في بروج مشيدة؟
يبدو أنّ بعض حكام العرب أصابهم تلوث بإنفلونزا العقول حجب عنهم الوعي وادراك حجم المخاطر التي تحدق بمنطقتهم التي تنزلق نحو المخاطر والمجهول الذي قد يعصف بهم كذلك في الوقت الذي يظنون أنّهم يحسنون صنعا. إنه زمن إنقلاب المفاهيم في ظل الترويج «لإيديولوجيا» بعض حكام العرب، أو بصيغة أخرى «عربولوجيا»، وتعني ببساطة إيديولوجيا غيبة الوعي.
Leave a Reply