تتعدد الأساليب والنتيجة واحدة: الإحتيال على القانون
تكاد لا تدخل محلاً من محلات ديربورن وديربورن هايتس إلا وتسمع في أسواقهما قصصاً وروايات من أمناء الصندوق (عمال الكاشيير) وأصحاب المحالات عن حاملي “بريدج كارد” أو “فود ستامب”. هذه البطاقة التي بات يمتلكها الكثيرون من أبناء الجالية العربية، إن توافرت الشروط الملائمة لإمتلاكها أو لم تتوافر، عبر أساليب شتى، أكثرها الإحتيال!..
القصص التي سمعناها عن أصحاب “بريدج كارد” منها الطريف ومنها الغريب ومنها المقزز، بحيث يظهر الجشع في أعلى مستوياته. وكنت أفضل من خلال إعدادي لهذا التقرير التطرق الى قصص وحالات بأرقام ومعلومات وأسماء حقيقية، لكن الحساسية الإجتماعية لهذا الموضوع، إضافة الى سياسات المؤسسات الإجتماعية التي ينبني عملها على التكتم والسرية والموثوقية حالت دون تحقيق ذلك. وكلها أسباب دفعتني الى مقاربة الموضوع من الزاوية التي يتناول فيها الناس العاديون هذه القصص.
“الشروال مهتري والدكة بأربعة عشر”
تروي أ.ش. العاملة في أحد محلات السمانة في ديربورن هايتس، عن الحادثة التي صادفتها، الأسبوع الماضي، حيث طلب منها أحد الزبائن أن يدفع ثمن الأركيلة بواسطة “بريدج كارد”. وتقول: “في البداية ظننت أنه يمازحني ولكنه إتضح أنه في منتهى الجدية، وإستاء جداً حين أجبته بأن ذلك غير قانوني”. والمفارقة أن العتب في هذه الحالة لا يقع على الزبون، فأشارت أ.ش. الى أن هنالك أحد محلات السمانة في ديربورن هايتس الذي يبيع زبائنه الأركيلة وتوابعها (المعسل والفحم) بواسطة “بريدج كارد” وهو الأمر الذي يدفع الكثير من الزبائن الى محاولة تمرير ما هو غير قانوني عبر هذه البطاقة. وتعبر أ.ش. عن استيائها من بعض مالكي هذه البطاقة، والتي تظهر عليهم علامات اليسر المادي بحيث يقودون سيارات فخمة يستحيل على ذوي الدخل المحدود إمتلاكها. وتضيف: “كما أن هؤلاء الميسورين حين تفرغ بطاقاتهم من الرصيد، يستدينون الطعام حتى يعاد ملء بطاقاتهم”.
وأيضاً نذكر حادثة من نوع آخر، حيث تلقت إحدى عاملات الكاشير في أحد الأفران في ديربورن هايتس، إتصالاً هاتفياً من سيدة طلبت منها تسجيل رقم “بريدج كارد” الخاص بها، لتدفع فاتورة ابنتها التي كانت متوجهةً الى الفرن مع صديقتها لشراء بعض الحاجيات. كما وأصرت السيدة أن لا تذكر أمام الصديقة أن ابنتها تستخدم “بريدج كارد”. وتقول العاملة: “استغربت كثيراً من طلب السيدة واستغربت أكثر عند وصول الابنة وهي تقود سيارة حديثة من نوع “بي أم دبليو” لا يقل سعرها عن 20 ألف دولار”.
وهنا نطرح السؤال، هل تخشى السيدة أن يتم الوشاية بها كونه من الواضح أن وضعها المادي ميسور؟ أم أنها تخجل من استخدام “بريدج كارد” أمام صديقتها؟ وفي كلتا الحالتين هنالك إن! كما يقال..
اللي استحوا ماتوا
وأكثر من ذلك، فقد قامت إحدى السيدات بمحاولة الالتفاف على القانون للحصول على “بريدج كارد” وعندما علمت صديقتها المقربة منها استغربت وسألتها: “لماذا تقدمين على هذا البطاقة في حين أن أوضاعك المادية ميسورة؟” فأجابتها بسخرية: “زيادة الخير خير، واذا أردت أن أحافظ على “لايف ستايل كلاس” وأبتاع لنفسي الثياب والاكسسوارات ذات الماركات المعروفة، والتي أسعارها باهظة جدا، سأحتاج الى دعم في غذائي”. وأضافت: “اذا أردت مثلاً شراء حذاء من ماركة “بيربري” فإن سعره على الأقل 500 دولار، وبالتالي الحصول على هذه البطاقة سيساعدني حتماً في توفير ثمنه بأقل من شهر”.
وفي السياق عينه، يشكو أحد عمال الكاشيير، في أحد محلات السمانة في ديربورن، من بعض حاملي “بريدج كارد” والذين يحاولون دائماً تمرير المواد غير الغذائية عبر البطاقة، وحين يقول لهم أن هذه البضائع غير مسموح قانونياً دفعها عبر هذه البطاقة، فإنهم يستاؤون، كما وجميعهم يقولون الجملة نفسها: “انو هلق ما فيك تمرقها، ما غيركم عم بيمرقها؟”.
ما هو “بريدج كارد” أو “فود ستامب” وما هي شروط حيازته؟
تقدم خدمة “بريدج كارد” و”فود ستامب” للعائلات الأميركية ذوي الدخل المنخفض أي من هم دون الحد الأدنى للأجور، كما وتقدم للأولاد دون سن الثامنة عشرة وللمرأة الحامل وللعجزة وغيرهم من الحالات التي يتوجب فيها أن يكون الفرد أو العائلة من محدودي الدخل. ويحصل الملايين من الأميركيين، أكثر من نصفهم أطفال، على تلك المساعدة عن طريق برنامج طوابع الأغذية الفدرالي المعد من قبل وكالة الطعام والتغذية (أف أن أس) التابعة لوزارة الزراعة الأميركية. وبموجب هذا البرنامج تمنح وكالات الخدمات الإجتماعية المحلية والتابعة للولاية مخصصات شهرية لتقدمة خدمة “بريدج كارد” أو “فود ستامب” للأسر المؤهلة لها.
كما يقدم أصحاب محلات البيع بالتجزئة (محلات السمانة والسوبرماركت والأفران..) على الاشتراك في برنامج طوابع الأغذية للحصول على ترخيص يخول حاملي “بريدج كارد” على استخدام هذه البطاقة في أعمالهم. ويخضع أصحاب هذه المحلات مجموعة من القوانين ومجموعة من العقوبات في حال وقوع المخالفة القانونية.
ومن المعايير التي تؤهل أصحاب محلات الطعام بالتجزئة لقبول “بريدج كارد”، أن يعرض المحل وبصفة مستمرة بيع ثلاثة أصناف على الأقل من الأطعمة المؤهلة مثل الخبز ومنتجات الحبوب ومنتجات الألبان والفاكهة والخضروات واللحوم والأسماك والدواجن. ويجب أيضاً، أن تشكل الأطعمة الأساسية ما يزيد عن 50 بالمئة من إجمالي مبيعات المحل دون احتساب القهوة والشاي والكاكاو والمشروبات والحلوى والتوابل والبهارات والأطعمة الجاهزة وما شابهها.
وعليه فإن حاملي “بريدج كارد” يمكنهم شراء فئات الأطعمة الأساسية المذكورة أعلاه ولا يحق شراء الأطعمة الجاهزة والمعدة للتناول في المحل أو المشروبات الكحولية أو الفيتامينات أو الأدوية أو المواد غير الغذائية، كالمحارم والصابون ومستحضرات التجميل وغيرها..
زبائن يحفزون على الإحتيال
نتيجة لإنتشار “بريدج كارد” وامتلاكه من قبل كثيرين من أبناء الجالية، اضطر الكثير من أصحاب المحلات التجارية الى ممارسة نوع مختلف من الإحتيال لكي يكسبوا هؤلاء الزبائن. فيشترط على حاملي هذا النوع من البطاقات شراء حاجيات معينة، فلا يحق لهم مثلاً شراء الوجبات المطبوخة والجاهزة للأكل، فيلجأ أصحاب هذه المحلات الى تجميد وتعليب بعض الوجبات الجاهزة وبيعها على أساس أنها أغذية باردة، أو يلجأون الى التلاعب بالفواتير حيث يضعون أسماء مواد غذائية غير تلك المواد التي اشتراها الزبون.
ويشير أحد أصحاب المطاعم في ديربورن، والذي لا يقدم خدمة “بريدج كارد” في مطعمه، كونه يقدم الوجبات الجاهزة والسريعة، أنه يصادف يومياً زبائن يحاولون دفع حسابهم عبر “بريدج كارد”، وعندما يخبرهم عن عدم تقديمه لهذه الخدمة يستاؤون. ويقول: “في إحدى المرات أعددت طلبية من الطعام وعندما جاء صاحبها لاستلامها، أراد أن يدفع عبر “بريدج كارد” وعندما علم بعدم توافر هذه الخدمة لدي، تخلف عن الدفع وترك الطلبية”. ويضيف: “معظم الزبائن ينصحونني بتخصيص جزء من المطعم لتقديم الأطعمة الأساسية التي يسمح بها، لأنه بذلك أستطيع أن أحتال على القانون وتمرير الأطعمة الساخنة على بطاقة “بريدج كارد” وبالتالي جذب المزيد من الزبائن”. الا أن صاحب المطعم يرفض الفكرة من أساسها ويعتبر أن رزق الحلال هو فوق كل اعتبار. وهنا يتم السؤال اذا كان الهدف من هذه المساعدات الفدرالية توفير الحاجات الأساسية للأشخاص والعائلات المحتاجة، لماذا لا يتوقف أصحاب هذه البطاقات عن استخدام رصيدهم في شراء الكماليات وحث أصحاب المحال على الاحتيال لصالحهم؟
العترة ع المعتر
هنالك من الأفراد والعائلات المحتاجين فعلاً، والذين من أجلهم تم وضع هذا القانون. والذين للأسف، وبعد الدراسة الكشفية، تبين أنهم أقلُ المستفيدين. فكما نعلم “المحتاج” و”المعتّر” في معظم الأحيان يجهل أساليب الإحتيال والنصب. وقد شاءت الصدفة أن أجتمع بـ ع.ج. وهي أم لخمسة أولاد وتعاني من العمى في عينها اليمنى وقد أوقف زوجها عن العمل لمدة سنة وثم أوقفت مؤخراً عنها خدمة “بريدج كارد” لأسباب تجهلها وتحاول اليوم جاهدة، وبسبب الحاجة الماسة، الى استعادة هذه الخدمة التي تساعدها كثيرا في تخطي محنة عائلتها.
محتال صغير
وهنالك من الأفراد والعائلات ممن لديهم أعمال ولكن مداخيلهم لا تكفي بسبب متطلبات الحياة الكثيرة الا أنهم، وحسب القانون، غير مؤهلين للحصول على “بريدج كارد” فيلجأون الى الإحتيال. ونعرف منهم الكثيرين..وللأسف يلجأ هؤلاء الى طرق ملتوية وتتنافى مع الأخلاق والقيم ومنها ما لا يستوعبه عقل. فتذكر إحدى السيدات في ديربورن عن حادثة إحدى زميلاتها في العمل التي قامت بالإحتيال على القانون من أجل الحصول على “بريدج كارد”. فقامت هي وزوجها بالطلاق الصوري، أي على الورق، وقدمت طلب الحصول على البطاقة، والمصادفة أنها كانت حامل. وعندما ذهبت برفقة والدها الى المكتب الميداني المحلي، سألها المندوب “كيف لها أن تكون حاملاً وهي مطلقة؟”. فأجابته بأن زوجها السابق زار بيت أهلها في إحدى الليالي، “وصار اللي صار، وفهمك بكفاية” وطبعاً بحضور والدها.. وهنا يتم السؤال، كيف وصل مستوى الناس الى هذا الحد من الإنحطاط بحيث يكون كسر القيم الأخلاقية والأعراف سهل جداً ومن أجل خدمة غذائية؟.
مال الخسيس بروح فطيس
وأيضاً هنالك بعض الأشخاص المحتالين الذين يتمتعون بدخل عالٍ وأحوالهم المادية “فوق الريح” ولكن يدفعهم الجشع والطمع الى الإحتيال على القانون للحصول على خدمة “بريدج كارد”.
ونذكر إحدى العائلات التي نقلت كل أملاكها، من محطة بنزين ومنزل وغيرها، الى اسم ابنها كي تحصل على خدمة “بريدج كارد”. ولكن شاء القدر أن يرتكب هذا الإبن جريمة قتل أدت الى مصادرة أملاك العائلة بالكامل.. كما نذكر القصة التي تصدرت عناوين الصحف الأميركية مؤخرا حين حكم على المدعو ليروي فيك (59 عاما) بالسجن 45 يوما بعدما تبين أنه استخدم بطاقة “بريدج كارد” لشراء الطعام المدعوم من الولاية، برغم فوزه بجائزة اليانصيب بمبلغ مليوني دولار، وحينها اختار قبض المبلغ مرة واحدة ليحصل على 850 ألف دولار نقداً، وهو ما اعتبر بحسب قوانين الولاية غير محسوب في حسابات الدخل، ليظل فيك مؤهلاً لتلقي اعانة الطعام من برنامج المساعدات الغذائية “فود ستامب”.
ونسمع بين الحين والآخر عن ضبط محلات تحتال على القانون عن طريق صرف المال النقدي لزبائن “بريدج كارد” عبر دفع فاتورة وهمية على حواسبهم مقابل قبض نسبة مئوية محددة من المال، وغيرها كثير..
أخيراً..
يعتبر الكثيرون أن وجود الثغرات في قانون حماية “بريدج كارد” هو ما يسبب عمليات الإحتيال الواسعة ويدفع بالناس بإختلاق وسائل وطرق متعددة للإلتفاف على القانون. الا أن هؤلاء لا يدركون أنه بمجرد قولهم ذلك فإنهم يخلقون لأنفسهم مبرارات ملتوية لممارسة الإحتيال. فكل المسائل القانونية والدينية والنظامية في الحياة ترتبط بعامل واحد ومشترك وأساسي وهو “الأخلاق”. وعندما تُفقد “الأخلاق” يختلط الحابل بالنابل وتصبح كل الممنوعات مبررة عند كل فرد حسب مصلحته الشخصية.
إن ظاهرة الإحتيال على القانون وخصوصاً الـ”بريدج كارد” لا تقتصر على أبناء الجالية العربية فحسب بل تمتد لتطال كافة المواطنين الأميركيين بإختلاف أعراقهم وأجناسهم وخلفياتهم الثقافية والإجتماعية. الا أننا نخص أبناء الجالية تحديداً، كي لا ينصاعوا لمتاهات الإحتيال والجشع المادي. فأن يصل الأمر بأبناء الجالية الى الإحتيال من أجل الطعام أمرٌ في غاية الخطورة وينذر بإنحدار المستوى الأخلاقي وغياب مفهوم الكرامة الفردية والجماعية.
Leave a Reply