كمال ذبيان – «صدى الوطن»
إنسداد أفق الحل السياسي لآزمة إنتخاب رئيس الجمهورية، وعدم تمكن اللبنانيين من صناعته، وربطه بالخارج، كما هو واقع تاريخ لبنان السياسي الحديث منه والقديم، فإن خطاب الإنفصال بدأ يرتفع، وشعارات مثل تطبيق «الميثاقية»، والسؤال الذي طرحه رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، على طاولة الحوار للمكونات السياسية-الطائفية وتحديداً الإسلامية منها، هل «تقبلون بنا شركاء»، هو ما بدأ يُقلق الشعب اللبناني، وطروحات «الفيدرالية»، أو «اللامركزية السياسية» تعود من جديد، الى السوق السياسية اللبنانية، والتي راجت وازدهرت، وجرت محاولات لتطبيقها أثناء الحرب الأهلية.
![]() |
ساحة النجمة في وسط بيروت |
فكان الشعار الذي سوّق له رئيس «القوات اللبنانية» بشير الجميّل عن «دويلة مسيحية» من جسر كفرشيما الى المدفون، والتي أدّت الى أن تقابلها «إدارة مدنية» اقامها في الجبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بعد حرب مدمّرة جرى فيها تهجير المسيحيين منه، وقد لعب العدو الإسرائيلي دوراً في تأجيج الفتنة بين الدروز والمسيحيين واستعادة خطاب ما حصل بين الطائفتين، في حرب العام 1860، في ظل السلطنة العثمانية، وحكم الأمير بشير الشهابي.
ولم يرتفع خطاب التقسيم، إلا بعد أن سقطت تجربة صيغة العام 1943، التي وُلدت تحت مسمى «الميثاق الوطني» الذي حدّد «العيش المشترك» بين المسيحيين والمسلمين، عبر توزيع السلطات عُرفاً دون نص دستوري، سوى ما نصّت عليه المادة 95 من الدستور على الحالة الطائفية المؤقتة في إدارات الحكم.
«الكانتون» في زمن الفوضى الخلاقة
وكان العنوان الذي طرحه المسلمون للبحث في الصيغة هو المشاركة التي لم يكن بشير الجميّل مؤمناً بأنها الخلاص للبنان، وينتقد والده الشيخ بيار مؤسس حزب الكتائب، كيف هو وجيله من السياسيين المسيحيين، قبلوا ما سُمي «العيش المشترك»، وكان الأفضل للبنان تقديم النموذج السويسري، القائم على «كانتونات» تتمتع بحكم ذاتي تحت حكم مركزي، وهذا ما عمل عليه، فإنفصل عن حزب الكتائب وأسّس «القوات اللبنانية» لتقيم «نموذج الكانتونات»، ويكون «الكانتون المسيحي» ملجأ «لمسيحيي الشرق» المضطهدين في دولهم، ولم يتراجع بشير عن هذا النموذج إلا بعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، فرفع شعار 10452 كلم2 بعد إنتخابه رئيساً للجمهورية، وبعد اغتياله، عادت «القوات اللبنانية» الى مشروع «الكانتون المسيحي»، الذي أسقطه المشروع الوطني الذي حارب تقسيم لبنان، الذي يدخل ضمن المخطط الصهيوني لتقسيم المنطقة والذي مازال العمل به قائماً، عبر مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي طرحه «المحافظون الجدد» في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وتبنّاه، لرسم خارطة جديدة للمنطقة، مع نشر «الفوضى الخلاقة» فيها عبر حروب تعيشها منذ عقود في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان -تمّ تقسيمه-.
ويبدو أن بعض الأطراف السياسية في لبنان، لم تتعلم من مأساة الحرب الأهلية، وفشل مشاريع التقسيم، وقد جاء اتفاق الطائف، لوقف الحرب، وإنهاء طروحات «الفدرلة» التي مازال رئيس حزب «الكتائب» سامي الجميّل، يعتبرها الصيغة التي يمكن أن تخرج لبنان من أزماته، فأنشأ تنظيماً أسماه «لبناننا»، قبل أن يتبوأ رئاسة «الكتائب».
الفدرالية تحت عنوان اللامركزية
فالنائب الجميّل يحاول تسويق «الفدرالية» باعتماد عنوان «اللامركزية» ليست الإدارية، بل السياسية و«التيار الوطني الحر»، يرى أن عدم تطبيق «الميثاقية» بالتمثيل المسيحي الصحيح في السلطة، سواء في قانون إنتخاب يضمن المناصفة المسيحية-الإسلامية الفعلية، ويوصل الى رئاسة الجمهورية مَن هو الممثل الحقيقي للمسيحيين، وهو اليوم العماد ميشال عون، فإن الشراكة قد لا تكون الخيار المطلوب، طالما أن الشريك في الوطن لن يقبل المساواة في الشراكة.
وقد توقف كثيرون أمام مثل هذه الطروحات، التي تمّ تداولها خلال السنوات الأخيرة، ومنها مشروع قانون الإنتخاب الذي أنجزه «اللقاء الأرثوذكسي»، بأن تنتخب كل طائفة نوابها، وهذا ما قابله البعض بإطلاق فكرة إعادة النظر في مسألة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بحيث لا يحصل المسيحيون على نصف مقاعد مجلس النواب، بل على ثلثها، وهو ما ترك بعض القوى السياسية المسيحية، الى فرملة طرحها للمشروع الأرثوذكسي، الذي لم تعد بكركي متحمسة له، لكنه كان إشارة أو رسالة سلبية الى المسلمين، حيث جاء طرح الميثاقية، من قبل «التيار الوطني الحر» والدعوة الى التحرك في الشارع لتطبيقها، ليعيد السؤال حول النظام السياسي القائم على التوافقية الطائفية، والتي عندما تختل تندلع حرب أهلية في لبنان، وهو ما يخشاه قادة سياسيون، من أن يؤدي طرح الميثاقية عنواناً لمشروع «فدرلة لبنان»، وهو ما بدأت تسأل عنه مراجع دبلوماسية حول هذا الموضوع لاسيما أن الداعين له ممثلو قوى سياسية مسيحية، تشعر أن «حقوق المسيحيين مغبونة»، و«شروط الشراكة منقوصة»، وهذا يتركهم يبحثون عن صيغة جديدة للحكم، أو ما سماه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي «عقد اجتماعي جديد».
فالأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية تستهويها مشاريع «كالحكم الذاتي» كما فعل الأكراد في العراق، أو الإنفصال كما حصل في جنوب السودان مع «الأقلية المسيحية» أو ما يطالب به البربر أو الأمازيغ في الجزائر، وما سعى إليه الصرب والكروات في يوغوسلافيا كقوى مسيحية، فارتكبوا المجازر بحق المسلمين في البوسنة، حيث تتعدد الأمثلة والنماذج في عديد من دول العالم.
فهل تكون معركة رئاسة الجمهورية، ثمناً لوحدة لبنان، التي يجري التهديد بالتفريط بها، إذا لم يقم الشريك المسلم بإنتخاب مَن يمثل المسيحيين، هذا ما يظهر من خلال مواقف لرئيس «التيار الوطني الحر»، الذي يطرح صيغة الشراكة الفعلية، أو البحث عن صيغة بديلة لما سمي «الميثاق الوطني»، وهو أمر يُقلّق اللبنانيين، في ظل رسم جغرافية-سياسية للمنطقة التي تعيش حرب نفوذ الدول ومصالحها.
هل تُقدم القوى السياسية المسيحية فعلاً على طرح «الفدرالية» كنظام سياسي، كحماية للوجود المسيحي في لبنان، بما تبقى من مسيحيين حيث لا يزيد عددهم عن المليون نسمة، ويتناقص عددهم، مع هجرة واسعة الى الخارج، ومع إنقراض المسيحيين في المشرق من العراق الى سوريا وقبلهما فلسطين، بسبب الحروب والإضطهاد والتمييز والأزمات الإقتصادية والسياسية.
لكن العودة الى طرح «الفدرالية»، أو «العيش المسيحي المنفرد»، إذا ما رفض الشريك المسلم، الوجود المسيحي الفعلي في السلطة، فإنه قد لا يلاقي التجاوب معها، بالرغم من ما يحصل في المنطقة والعالم من أعمال إرهابية من قبل جماعات تكفيرية، لان المسيحيين لن ينجروا الى ما يسوّق لهم تحت عنوان «الميثاقية» أو «الشراكة»، الى مشاريع الإنفصال أو «الكانتونات»، لأن إنتشارهم الواسع في لبنان من شماله في القبيات الى مرجعيون ورميش في الجنوب، ووجودهم الكثيف في الجبل، وحضورهم في البقاع من القاع مروراً بزحلة وصولاً الى راشيا والبقاع الغربي، ودورهم في العاصمة بيروت، فهم في لبنان رسالة كما كانوا وسيبقون، إذ هم رواد النهضة العربية، وقادة الفكر وطليعة الثقافة، ولم يعرفوا العزلة، لا بل كانوا دعاة حوار وانفتاح، ومَن كان من قادة أحزابهم الطائفية يخوفهم من المسلمين والعروبة، فكان يأخذهم الى الإنعزال والتقوقع، والدعوة الى التقسيم والحروب.
والقلق عند اللبنانيين من الطروحات الطائفية، هو ما بدأوهُ بطرح السؤال على أنفسهم الى أين يتجه بعض الزعماء بهم، وهم يرون كيف دُمّرت سوريا وتشرّد مواطنوها، وكذلك العراق واليمن وليبيا، وقد ذاقوا هم كأس الحرب المرة، التي لم تنتهِ آثارها بعد، فهل يقادون الى حرب جديدة، تحت العناوين نفسها التي اندلعت حرب 1975 تحتها؟ وهي المشاركة، وتعديل الدستور، وتغيير النظام السياسي أو إصلاحه، وإسقاط الطائفية، ويكون إتفاق الطائف الذي أنتج ميثاقاً جديداً لم تطبق بنوده الإصلاحية، ومن أبرزها إلغاء الطائفية في قانون الإنتخاب كما في السياسة وتوزيع السلطات والوظائف، ويكون البديل عن «الميثاقية» «الفدرالية» التي وصل صداها الى دول القرار، وبدأ جس نبض المسؤولين فيها من جهات لبنانية.
Leave a Reply