د. عبد الإله الصائغ
طبيعة الوجود قائمة على التضاد. أما التطابق الكلي فهو غير موجود إطلاقاً حتى بين التوأمين السياميين! حتى بين شقي الصخرة الواحدة! والتضاد لا يستدعي العداء بين الأضداد ولذلك وظفته الحضارة الجديدة باتجاه التعايش والسلام كقولنا هذا رجل بشرته سوداء وذاك بيضاء! تلك سيدة من الشرق وهذه من الغرب! ويستدعي التضاد أحياناً الانحياز نحو التوجس والفصل في القول والفعل معاً مثل سلام وحرب وخير وشر ومثل صدق وكذب ومثل تسامح وانتقام. وحين نفرغ من هذه الإشكالية تواجهنا اشكالية الواقع والمجاز وهي إشكالية لا يستهان بها أبداً. وحول الكتاب الكريم قال أبو عبيدة معمر بن المثنى (المتوفى: 209 هـ) في كتابه «مجاز القرآن»: لا يفهم القرآن من لا يفهم المجاز. وقال ابن جني (المتوفى: 391 هـ) –وهو استاذ المتنبي– في كتابه «الخصائص»: إعلم أن أكثر اللغة مجاز فإن فتشته لم تر فيه بغيتك.
وقال عبد القاهر الجرجاني (المتوفى: 471 هـ) في «إعجاز القرآن» و«أسرار البلاغة» إن هناك المعاني الثواني في القول فتدبر ذلك! وقال ريتشاردز وصاحبه أوغدن في كتابهما «معنى المعنى» إن هناك معنى تحت كل معنى، وهناك معنى متجل عن معنى مختف.
وأمامنا معجم «لسان العرب» لابن منظور المصري (المتوفى: 711 هـ) طبعة صادرة في 24 مجلداً إذا أفرغته من المجاز بات دفتراً قليل الأوراق، ولذلكم فعلماء البلاغة المعتمدون لا يعتدون التشبيه مجازاً بل اعتدوه حقيقة.
هو في الحقيقة أدخل نحو: ليلى مثل الوردة، ليس ثمة مجاز لأن لكل بقاؤه وصفاته، فليلى لبثت ليلى والوردة بقيت وردة.
علماء الأجناس –برونتير مثلاً– يقولون بأن ليس ثمة تطابق كلي بين الأشياء، فالوجوه لا تتطابق، وبصمات الأصابع لا تتطابق حتى مع التوأم السيامي، وتعبيرات مثل التناظر والتقارب والتصاقب والتماثل كلها في باب التشبيه وليست في باب الواقع وحتى الواقع فهو لا يتطابق، وذلك ما يسوغ كلامنا في مبتدا ديباجتنا «طبيعة الوجود قائمة على التضاد. والتطابق الكلي غير موجود». فنحن إذن مطمئنون في تحليل الظاهرة إلى الذكاء والقدرات الخاصة وقد قال الرسول الكريم (ص) «إتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ولم يقصر (ص) الفراسة على المسلم وإنما عنى بالمؤمن: الرجل ذكي العقل، حديد النظر، نقي الطبع.
كانت العرب قبل الإسلام على أربعة علوم: علم التوريخ وعلم الفراسة وعلم القيافة وعلم الأنواء. وهذه العلوم الأربعة تمتلك قواسم مشتركة وهي تحليل الظواهر وتأويلها. وكل هذه العلوم لا يستطيعها غير الأذكياء. وقد حرم الإسلام علم الانواء لأنه ينسب الطقس إلى مسببات طوبوغرافية –ولكن التحريم في نظري كان لابتعاد علم الأنواء عهد ذاك عن ربط الأنواء بمشيئة الله وقدرته أما المعرفة بالطقس فلم تكن محرمة.
وتتفرع عن هذا العلم علوم كثيرة، منها علم الزمن ومعرفة الاشهر الحرم والحل والكبس والنسء وكان محترف علم الزمن يدعى القُلُمُّس! أما علم القيافة فيعني معرفة الأثر الغاطس من الأثر الظاهر بحيث يرى القائف المحترف ما لا يراه الناس العاديون، وعمله كان أقرب للعلم منه للزعم وقد استعانت قريش بالقائف لمعرفة مكان اختفاء النبي محمد (ص) وصاحبه ابي بكر (رض) فعرف القائف مكان اختباء النبي وصاحبه وأوصلهم إليه لكنه ندم حين علم نية قريش في قتل النبي محمد وصاحبه فضللهم وقال لهم هناك حمامة تَقُفُّ على بيضها مدخل الغار ولو دخل محمد وصاحبه لتخرب العش وتكسر البيض وطارت الحمامة فخذل قريشاً وهو يعلم يقينا بأن النبي وصاحبه في الغار. وتتفرع عن علم القيافة علوم أخرى.. والقيافة قدرة خاصة على رؤية ما لا يراه الآخرون.
وقد صنع ابن الجوزي (المتوفى: 597 هـ) كتابا أسماه «الأذكياء»، والكتاب يتوفر على علم الفراسة ومعرفة الباطن من خلال الظاهر مع نوادر الأذكياء وطرائف أخبارهم، وجعل كتابه في ثلاثة وثلاثين باباً منها: فضل العقل وماهيته ومحله، والذهن والفهم والذكاء، وعلامات الذكاء، وعلماء العربية ممن عرفوا بالذكاء، واستخدام الذكاء للأغراض المختلفة حتى تتكشف الحقائق من لغة الجسد واحترازات الأذكياء فيما يكشفونه. ولم يستثن ابن الجوزية النساء الفطنات الذكيات، والصبيان، وعقلاء المجانين، ولم يفته الحديث عن تفسير الأحلام وقد أورد كتاب «الأذكياء» حكايات غزيرة تجلت من خلالها جهود علماء الفراسة منذ القدم ومن هذه الحكايات ما يخص إياس بن مُعاوية المزنيّ، والفحوى أن ثلاث شابات كن يغسلن أجسادهن في النبع، والعادة أن تجلس مدخل الطريق إلى النبع امرأة تسمى القعدد تمنع الناس عن النبع والمستحمات، ويبدو أنها غفلت ونامت فدخل بالغلط إياس المزني فباغت النساء العاريات ورآهن وعرف غلطته فاعتذر لهن وعرف بنفسه أنه القاضي وأدار ظهره إلى النساء وإياس متعفف. فلبست البنات ملابسهن ثم أحطن بالقاضي إذ لكل واحدة منهن مشكلة تريد أن تطرحها عليه فابتسم وقال: أجيبكن وهذا وعد ولكن شريطة أن تجيب كل واحدة منكن عن سؤالي… فقلن له تفضل، فقال للأولى: هل انت حامل ولم يكن بطنها منفوخاً ولم تكن أية إشارة دالة على حملها فقالت: نعم سيدي. ثم التفت إلى الثانية فقال لها وهل أنت مرضع فدهشت وقالت له نعم أيها القاضي ولم تكن في أثدائها ما ينم على انها مرضع. أخيراً التفت إلى الأخيرة وقال لها: أصدقيني هل انت عذراء؟ فبهتت وقالت له نعم ياعم أنا عذراء!
وجلس القاضي معهن ليجيب عن دهشتهن في كيف ميز بين المرضع والحامل والعذراء، فقال محللا ما ظهر له «الظاهرة»: في لحظة الفزع المفاجئة يضع الإنسان يده على المكان الأعز الذي يخشى عليه قبل أن يفكر، فالحامل وضعت يديها على بطنها والمرضع وضعت يديها على صدرها، أما العذراء فقد وضعت كفيها على الذي بين فخذيها…
هذه واحدة من حكايات الأذكياء، وبعيداً عن التاريخ وشواهده نتوجه إلى صعيد الحيوات اليومية فبعضنا يعرف الشرطي حتى وهو بملابس مدنية ويميز بين الشرطي ورجل الأمن، أو يميز المتزوجة من العذراء من خلال ألوان تحت العين ونظرة الخفر فضلاً عن دلالات أخرى. وكان عالم الفراسة موصوفاً بالذكاء المتميز وقدرته على صناعة معادلات رياضية والحصول على نتائجها خلال ثوان ولذلك اشتهر إياس بالذكاء أو الفراسة وأبو تمام الطائي وهو الذكي المتفرس امتدح ذكاء إياس في وصف الخليفة بقوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
ويتفرع عن علم تحليل النص أو الفراسة علم آخر هو علم التحقيق والتنقيب عن الجريمة ومعرفة القاتل المحترف. وفي علم الفراسة والمعنى المخبوء ثمة علم تحليل النص وهو اختصاص ينال به المشتغلون على تحليل النص دكتوراه فلسفة ودرجات الترقية بعد الدكتوراه والمختص به قادر على تحليل النص الشعري والأدبي والقانوني بعامة مثل القصة والرواية كما أن محلل النص كما يفترض انه متمكن من تحليل النص القانوني والتاريخي والديني وفق محمولات علم تحليل النص Text Analysis التي تلاحظ الدال والمدلول والخفاء والتجلي والتحليل والتأويل والترميم وقد شاع في العقد الاخير ظهور أدعياء (طراطير) ممن يزعمون تمتعهم باختصاص تحليل النص زيفاً وميناً فيكتبون عن طمع في المكتوب عنه أو عن فزع منه ولذلك تجيء كتاباتهم بعيدة عن الروح العلمي فضلاً عن المصداقية، ومحلل النص كما يفترض به أن يكون متفرساً من نمط مغاير بحيث ينسجم تحليله مع دعوة رولان بارت إلى ممارسة النقد مع النص والنص وحده والتغاضي تماماً ونهائياً عن منتج النص أو مؤلفه.
ولم يقتصر الخلل على الأدب شعراً ونثراً، فبعض الأدعياء مارس تحليل النص القرآني وهو يجهل اشتراطات تحليل النص القرآني من نحو المحكم والمتشابه والمكي والمدني والمجاز والواقع وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وقائمة الاشتراطات معروفة، ولذلك تراهم يهرفون بما لايعرفون وقد توهموا أن الكتاب الكريم يدعو إلى قطع الرؤوس واغتصاب النساء والتحريق والتغريق والتخريب واقتصاره على تعذيب الإنسان واحتقار المرأة. أما تعامل أدعياء علم تحليل النص مع الحديث النبوي الشريف فهو مدعاة للحزن بل الوجع فهم يجهلون لغة النبوة وشخصية النبي وعلوم تحليل الحديث الشريف من نحو علوم الجرح والتعديل والرجال والمنطق والتحريف والتصحيف وعندنا أمثلة كثيرة لا تتسع مساحة العمود لتعدادها…
وأخيراً نتوقف عند علم التوريخ الذي جعل منه الجهلة والأدعياء مسوغاً للعداء المهلك بين المذاهب الاسلامية وحتى بين أتباع المذهب الواحد كما جعلوا من علم التوريخ سبباً لنمو ظاهرة الإرهاب والتشدد وظاهرة التعامل مع أتباع الأديان السماوية السمحاء على أنهم أعداء للاسلام بل أعداء للبشرية… بل وشاع التكفير الذي صنعوه من أخبار تاريخية لا أساس لها من الصحة فبعض ما ورد في التاريخ من أحداث وأسماء لا أساس له من الصحة البتة، حتى قال الشاعر مصطفى جمال الدين:
وحذاري أن تثقي برأي مؤرخ
للسيف لا لضميره ما يسطر
وقال معروف الرصافي:
وما كتب التاريخ في كل ما
روت لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
وبعد، يظل تحليل النص مفتقراً إلى المروءة الذكية المتفرسة المؤمنة بالسلام والتعايش، وتحليل النص مفتقر إلى الغيارى الجريئين الذين يقولون للمداهن ممن يزعم معرفة التحليل النصي كفى فنحن في زمن التواصل الاجتماعي ولم يعد الأدعياء قادرين على فرض أفكارهم القبورية ودعواتهم الطائفية وخطبهم الظلامية التي فرخت لنا الإرهاب وعطلت دور العقل وخدرت النظر الاستباقي .. وللحديث صلة.
Leave a Reply