تشتد العاصفة. تزعزع الأركان والأشجار. تنقبض النفس. يختلج المصباح في سقف الغرفة. يهب من نومه مذعورا. يفتح النافذة ولكن سرعان ما تصده الريح. يقترب من طاولته وينكب على الكتابة. فيكتب. إنه هو. في العاصفة. عاصفة نفسه وعاصفة الطبيعة. العواصف منذ طفولته. تهدأ وتقوى. غدر به الحب. رفضه المجتمع. أفكاره وطموحه تتلاشى أمام عظمة الكلاب. جنّد إرادته. قوى عزيمته. رفض الواقع المزيف. سدّ أفواه الغادرين بصمته ومشى. سار جبارا في وجه العواصف.
هذه الكلمات الجميلة كتبها الفنان الجميل. من الزمن الجميل. من الوطن الجميل لبنان، ابن مدينة الشمس بعلبك، الفنان الرائع أكرم الأحمر، الذي يحلو له أن يردد مع الرائعة فيروز: يا قلبي لا تتعب قلبك. وبحبك على طول بحبك. بتغيب كتير وبتروح كتير وبترجع وع دراج بعلبك. ودرج أكرم الأحمر وهو شاب يافع متلصلصا، مشاهدا، مبهورا بالفرق المسرحية العالمية التي كانت تتباهى بأعمالها الفنية “ع دراج” قلعة بعلبك.
كان الفنان أكرم واحدا من جيل لبناني لديه حلم. لم يكن يرضيه أن يحيي السهرات بين أهله وأصدقائه، مقدما لهم عروضا من تأليفه وتمثيله، دون تشجيع منهم لتحقيق حلمه بأن يكون ممثلا مشهورا. بالعكس كان يعيش في ظروف تمشي بين القادوميات والزواريب ووضع العصا بين الدواليب وليس هناك من يسأل ويجيب. عاش حياته الأولى بين أحضان الطبيعة في مدينة بعلبك التي أحبها ورغم حداثة سنة كان ينظر إلى الأشياء نظرة الإنسان المتفائل لتحقيق حلم الشهرة والتميز عن الآخرين بالرغم من معارضة أبيه وأخوته وسخريتهم منه زاد من إصراره على تغيير الصورة، وكان أن حمل أكرم الأحمر شنطة إصراره وأحلامه ومشى إلى العاصمة بيروت زاده دعاء والدته وتشجيعها له.
كان يملك موهبة التمثيل. تتفاعل فيه. تناديه. يريد أن يظهرها ويعطي منها فيما هو غير قادر على صقلها بالعلم. غير قادر على الإنفاق المادي. غير قادر على الاستعطاء للوصول. موهبة التمثيل، وحدها لا تكفي. الموهبة بدون مال أو علم أو علاقات عامة لا تكفي.
وسط كل هذه العواصف والعوائق استطاع الفنان أكرم الأحمر أن يدخل معهد التمثيل. فبرع وتجلى فيه. المخرج المبدع انطوان ريمي أسند له دور البطولة في مسلسل “ربيع” الذي كان نقطة تحول في حياة الأحمر. عرض تلفزيون لبنان ذلك المسلسل في أوائل السبعينات من القرن الماضي، فنال شهرة تضاهي مسلسل نور التركي أو ربما أكثر، فلم يكن وقتذاك فضائيات ودعايات وانترنت مثل هذه الأوقات، لكن وسامة الأحمر وعينيه الحالمتين وصوته الجميل الذي يمتلك رنينا صافيا ويخرج من فمه مخرجا حسنا، جعله يصل إلى القلوب البريئة المتعطشة، وصول نسمات بعلبك الباردة الى صدر بيروت الملتهب.
كان الفنان أكرم مبدعا. لم يكن متكئا على وسامته فقط، واستطاع بكلمة واحدة أن يؤثر على الجمهور فيضحكه أو يبكيه أو يأسره أو يؤثر فيه، وصار اسم ربيع اسما شائعا للعديد من الأولاد في تلك الفترة.
استفاد أكرم الأحمر من تجارب الفنانين، رغم محاربة العديد له، أحبهم. تعامل معهم باحترام عذب قولا وفعلا ثم اختار طريقه. وبعد أعمال تمثيلية عديدة صار له حضور خاص وموقع مميز وغدا ظاهرة فنية توقع له معارضوه ومحاربوه أن ينحسر في وقت قليل، وتمنى له المحبون أن تدوم. راح يحصد النجاح تلو النجاح. ويبني مستقبله الفني تقوده موهبة فنية حساسة فيها درجة عالية من الشفافية وفهم الجمال. من أشهر المسللات التي قام ببطولتها الفنان الأحمر مع العديد من الفنانين اللبنانيين والعرب: مسلسل النهر، لمن تغني الطيور، مسلسل سحر، حكايتي، غرباء، قادم من الضباب، أربع مجانين وبس، وغيرها الكثير من الأعمال الفنية المميزة كانت له فيها البطولة المطلقة. كان دعاء أمه له حافزا ليبدع ويتقدم وألا يستسلم وينحني للعواصف التي اعترضته، حتى كانت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 ، وكان أن برزت قرون الطوائف التي راحت تتناطح ووسعت عيون التعصب حتى العمى. شردت تلك الحروب لبنان وعبثت بأحلام اللبنانيين ومنهم الفنان أكرم الأحمر فنقلته الحروب المتوالدة من أرض الطيب لبنان ومن مدينة الشمس بعلبك الى جبال الضباب والثلج في أميركا.
“الغربة مضيعة النسب” ينطبق هذا المثل على فناننا أكرم الأحمر، الذي قست الغربة عليه كثيرا. عانى من الأقربين والأصدقاء أكثر مما عانى من الغرباء. هو يعيش حاليا في ديربورن دون أن يعرفه أحد. عزاؤه أن دفء تراب بعلبك يحتضن رفات والدته.
وبما أن الحياة أحيانا ترداد صدى ولا ترداد بلا ماض وذكريات، العمر –برأيي- مشوار مدى فيه مفارقات ومحطات. الآن يقف الفنان أكرم الأحمر في محطة العودة إلى الواجهة الكبرى. واجهة التمثيل، ليطل منها على الذين أحبوه ومازالوا، بعدما احتجب عنهم مدة طويلة بسبب قسوة وبرودة الغربة وعواصف الحياة فيها. من أعماق القلب نطلب منه، نحن عشاق الفن الجميل، أن يعود الى الشاشة التي افتقدته كثيرا. نطلب منه العودة مثل الجواد الأصيل الذي ينتفض من كبوته ويعاود الوقوف ليركض في ميدان الحياة والنجاح.
الفنان الجميل أكرم الأحمر، أشبه ما يكون بمدينة الحلم والحياة، مدينة بيروت، التي سقطت يوما من مستوى الطموح الشاهق الى مستوى زواريب وأحياء ومذاهب وحروب عاصفة وقاهرة. رغم ذلك انتفضت بيروت وعادت للحياة التي تحبها. هذا ما أتمناه للفنان أكرم الأحمر أن يعود صلبا وقويا إلى “دراج” مدينته بعلبك متحديا العواصف.
Leave a Reply