حاوره قاسم ماضي
هناك حالة من الفوضى، وتجاوز للمعايير العلمية فـي الإدارة نتيجة لطغيان الولاءات السياسيّة، أنتجت معها انعدام الرؤية، لدى الأنظمة الممسكة بمصادر القرار، حتّى باتت لا ترى أهمية للفن، ممّا جعلها قاصرة عن إدراك أهمية الثقافة بمحاورها المختلفة، وهذه الفوضى أدخلت الواقع فـي صراع غير ذي جدوى على خارطة المستقبل فضلاً عن الحاضر إن لم تسهم فـي تقهقره، وهذا الصراع، أدى إلى ضياع الكثير من المفاهيم التي تعلمناها نتيجة القراءة والبحث المستمر فـي عالم الفنون الساحر، وكذلك القيم المؤشّرة للرقيّ والإرتفاع بمستوى الحياة على كلّ الأصعدة وخاصّةً الإبداعيّة والجماليّة منها، ولأنّ التمسك بتلك القيم التي تعلمناها من الروّاد الذين سبقونا، ومنها قيمة الفن العراقي الرصين الذي كان منبع الثقافات الحديثة فـي زمن ما من الأزمان، وكم نشعر اليوم بالأسف الشديد لما آل إليه الفنّ من التدنّي بحيث بات يستخدم الفنان كوسيلة وأداة لتحقيق المصالح الفئويّة من دون اعتبار للمعايير الأساسيّة الكفـيلة بحيويّة الفنّ الملتزم، على الرغم من إصرار الكثيرين على التشبّث بأصالة تلك القيم والإستمرار بالمحافظة عليها، وهذا إنعكس على جميع مجالات الفنون والثقافة وليس الفن التشكيلي وحده، حيث أنّ هناك تنافس شديد بين أصحاب القرار، والكل يريد أن يرسم على الحائط ويكتب شروطه قبل الآخر، ممّا يترك أثره السلبي على كاهل المثقف والفنان، وهذا مانراه جليّاً فـي المشهد الثقافـي والفني العراقي اليوم، وهذ أيضاً ماأكده «القلعاوي» فـي حوارٍ دار بيننا فـي المتحف العربي الأميركي بديربورن، وهو يتوج على جدران المدينة الكثير من أعماله التي ظلت شاخصة فـي ولاية «ميشيغن » الأميركية، أدرج فـي أدناه نصَّ الحوار:
س: لاحظتُ شخصياً بروز الجنوب من مناطق العراق فـي أغلب لوحاتك، هل لك ان تفسّر لنا ذلك؟ ولماذا الجنوب بالذات؟
لا شك أنّ بيئة الجنوب أنجبت العديد من رموز الثقافة والفن عبر تأريخها الزاهر، وخاصة من الذين سبقونا، حيث تنوّعت أعمالهم بين البورتوريه، والطبيعة، والفلكلور الشعبي، وظواهر الأهوار والريف، وقد كنت شغوفاً بهذه الفنون التي تعلمتها عبر احتكاكي الشخصي مع الكثيرين من رموز هذه المدينة، ولأنني إبن بيئتي فقد تأثرت بها، وكان عمري لا يتجاوز العشر سنوات، حيث بيوت الطين، البداوة، النخيل، المسطّحات المائيّة، كما الشناشيل فـي أزقّة المدن العريقة، كل هذه الطبيعة فتحت لديَّ آفاقاً رحبة فـي عالم اللون والتكوين والحركة داخل إطار اللوحة المرسومة، ولا تنسَ أن هذه المدينة تغفو على نهر دجلة الساحر حيث الطيور المهاجرة تبعث لديَّ الكثير من الهواجس على صوت المياه العذب الذي يخرج من تناغم مويجات النهر، كل ذلك من خلال مشاهداتي اليومية المتكررة، بالإضافة إلى اهتمامي بمتابعة منجزات الفن التشكيلي العالمي، حيث كنت شغوفاً بمعرفة سيرة وحياة الكثير من الفنانين، وكنت أحلم أن أكون مثل أولئك الكبار، كما كان لشقيقيي الفنان التشكيلي عبدالخالق المالكي الذي تخرّج من معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون الجميلة أثراً فـي توجّهي وتوجيهي، وعبر مكتبته الزاخرة بالكتب المتنوّعة ومرسمه المتواضع فـي البيت الذي كنا نعيش فـيه، وكذلك أخي الفنان «علي المالكي» وهو فنان تشكيلي معروف فـي مدينتي التي كانت تجمع جميع العراقيين بكل مذاهبهم، وهي عبارة عن موزائيك مصغر لأبناء العراق، يجمعهم الحب والجمال،كما وبرز منها الكثير من المبدعين ومنهم العالم الكبير «عبد الجبار عبد الله« الذي أقيم له تمثال فـي تلك المدينة، والباحث المعروف «علي كاظم الدرجال» والكاتب «عباس الزيدي» والاستاذ الذي تعلمت منه الكثير «مجيد الياسري» والعالم المعروف زهرون شلش «والاستاذ الكبير» «عبد الوهاب طه» وكذلك المبدع «ملة ضيف» بالإضافة إلى ذلك انتشار حركة المياه ، والزورق، والمرأة، والبلابل، والبردي، والطين، وأتذكر بعض الأسماء من الرسامين الذين يحبون الجنوب ويرسمون العديد من اللوحات ومنهم الرسام «صبيح عبود» والرسام «علي الجمالي» وكان لصوت «مسعود العماري» الذي يتنقل بنا فـي هذه المدينة، ويعطينا الأجواء التي كنا نحلم بها عبر صوته الشجي، كل هذا كان له الأثر الكبير فـي زرع هذا الولع ، وعالم الجنوب أوحى لدي أكثر من 700 لوحة فنية نقلتها هنا فـي «ميشيغن» وبقية الولايات الأميركية من خلال تزايد الطلب عليها فـي البيوت والمحلات التجارية ، وكذلك بعض لوحات من الحضارات الآشورية والكلدانية.
س : أعمالك هل أعطت شيئاً للوطن الجريح ! وهل ما قدمته عبر رحلتك الطويلة بعد قراءة عميقة لجميع لوحاتك هو اشتغالات تضيفها لتاريخك الفني؟
الموضوعات التي أتناولها فـي لوحاتي هي الموضوعات التي تؤثر فـيً بشكل مباشر ، واغلبها معاناة أبناء وطني وخاصة الفقراء الذين ظلموا فـي الفترتين ، ومع هذا أمنحهم الحب والأمل والسعادة ، جميع الأعمال التي قدمتها هي وجبة طازجة لهذا الشعب المبتلى بصنوف الإهمال ،وهدفنا من نشر الفن وتداوله بين الجميع للارتقاء بالحس والذوق لدى المتلقي فـي كل مكان ، حيث ترقى الأمم برقي فنونها ، وأحب أن أضيف بأنني أتعامل مع الواقعية وهي الأساس الذي أرتكز عليه كما أرتكز الفن الحديث على الواقعية فـي عصرنا هذا ، وتبقى هذه الحقيقة قائمة مهما حاولنا التهرب منها ، ولو تفحصت لوحة «البردي» ولوحة «الشهيدى ولوحة «المرأة» لوجدت أنّها تصب فـي معاناة هذا الوطن ، أنا أعمل بشكل دائم فـي مرسمي وفـي حالة بحث عن كل ماهو جديد فـي عالم التشكيل، والوطن الذي تخلى عنا وتركنا فـي مهاجرنا القسرية وتلك هي العلة حيث لم يسأل عنا وعن مبدعيه سواءً فـي داخل العراق وخارجه ، حتى أن وزارة الثقافة يقودها عسكري مع الأسف الشديد ، وحتى رحلتي من الأهوار منذ عام 1991 ، إلى ايران ، وسوريا ولبنان ، ومحطتي الأخيرة الولايات المتحدة، كلها عذابات تعقبها عذابات ولكني أخلق فضاءات متعددة من خلال لوحاتي ، وأجد ميلاداً جديداً يعاند ظلمة الحصار ، وبالتالي أرى فـيها البعد الآخر .
س: ما هي أهم المعارض التي شاركت بها مؤخراً فـي الولايات المتحدة الأميركية؟
شاركت فـي العديد من المعارض الفنية فـي الولايات المتحدة الأميركية ، ومنها معرض «كلنا علي دواي» الذي أقيم فـي قاعة هنري فورد ، والذي أفتتحه ُ الفنان العراقي الدكتور «سعدون جابر» وبحضور كوكبة من الفنانين العرب ، وكذلك أبناء الجالية العربية والأميركية ، وتعددت لوحاتي فـي مفاهيمها وموضوعاتها لإيصال رسالة معينة إلى الجماهير عسى ان تؤثر فـي الحواس لدى الناس ، وعسى ان تكون لها طاقة هائلة على إيقاظ المشاعر ، ولكون المعرض يؤدي رسالة حضارية ، وله وظائف عديدة تربوية وثقافـية وعلمية واجتماعية واقتصادية وغيرها ، وبالتالي نحن نعمل على تنشيط الحركة الفنية بين أبناء جاليتنا ونعّرف الآخر على ثقافتنا فـي مهجرنا ، كذلك معرض «لا للطائفـية» وهو من المعارض الكبيرة فـي ميشيغن وقدمت فـيه لوحات عديدة لغرض إيصال فكرة مفادها «نحن أبناء وطن واحد» نعيش تحت سقف واحد ، وكان للشهيد «عثمان» حصة فـي هذا المعرض الذي حاولنا فـيه خلق مفاهيم من فلسفة التسامح ومعاني إنسانية أخرى للحياة والشعر لمتلقي المعرض ، ولدي الآن العديد من المشاريع الجديدة ربما تكون نواة لمعرض آخر يخدم مسار حركتنا التشكيلية العربية فـي المهجر ، ونحدد شروطاً أدنى للجودة وفق معايير فنية تستند إلى آراء نقدية ونظريات فنيّةة .
س: كيف تنظر إلى واقع الفن التشكيلي فـي العراق؟
لو حاولنا أن نرجع إلى الوراء ونستقرئ تاريخ توثيق المنجز العراقي الثقافـي بشكل عام والتشكيلي بشكل خاص ، لوجدنا أن العراق هو بلد الحضارة والتاريخ ، وسيظل منبراً للحرية والفن والإبداع ، وهذا الأمر ليس خافـياً على أحد ، وهو الأمر الذي لم يتم التراجع عنه مهما كانت الظروف التي تحيط فـي بلدنا العراق ، وما يمر به الآن من أزمات سياسية بل حتى حربية مع دواعش العصر الجديد ، يبقى العراقي هو الباحث عن الجمال ، بالرغم من التجاهل والإهمال المقصودين من قبل مؤسسات تدير الحركة التشكيلية فـي العراق والتي رسخت المحسوبية والحزبية هي ذات الوجوه المهيمنة التي كانت تدير المؤسسة الرسمية المقبورة والفن العراقي فـي تطور ملحوظ وسيبقى محافظاً على بريقه .
Leave a Reply