وقع لبنان في المحظور الأمني ودخل في نفق مسدود، في ظل انكشاف ساحته الداخلية على الصراعات الخارجية، ولا سيما منها الحرب على سوريا المستمرة منذ عامين ونصف العام… وبعد أن فشلت المخططات باسقاط نظامها من الداخل عبر قوى إسلامية تكفيرية، وبضعة الآف منشقين عن الجيش السوري وتحولهم إلى «حر» بدعم مما يسمى «أصدقاء سوريا»، فإن الحرب الخارجية على سوريا بدأ التحضير لها من قبل تحالف تجمعه أميركا، وهو نفسه التحالف الذي تستخدمه في كل «حروبها الاستباقية» وفق وصف الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الذي شن حرباً على أفغانستان لمحاربة «الارهاب» بعد أحداث 11 أيلول 2001، واجتاح العراق في 2003 تحت ذريعة امتلاكه لأسلحة دمار شامل أثبتت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات دولية، واعترافات مسؤولين أميركيين سابقين كانوا من الداعين للحرب، كوزير الخارجية كولن باول، أنها مجرد افتراءات وأكاذيب ملفقة حيث أن ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل من العراق كانت مجرد وسيلة لاسقاط النظام وغزو البلاد وتدميرها.
هو العنوان نفسه يوجه لسوريا دون أي دليل على أن النظام السوري استخدم أسلحة كيميائية في معاركه ضد معارضين، وهو ما لم تثبته تقارير المفتشين الدوليين، إذ صدر الاتهام الأميركي والغربي ومعه التأكيد الإسرائيلي والتركي والعربي -بفرعه الخليجي- قبل التحقيق الميداني للمفتشين التابعين للأمم المتحدة، وهذا يشبه السيناريو الذي أعد للعراق لتبرير الحرب عليه، وهو يشبه تسييس التحقيق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانشاء المحكمة الدولية بقرار من مجلس الأمن الدولي وفق البند السابع، ضد سوريا و«حزب الله»، لا لكشف الحقيقة في جريمة مقتل رئيس وزراء سابق للبنان، والتي تحمل كل الاحتمالات والفرضيات بل صدر القرار السياسي الذي فيه توجيه الاتهام نحو عناصر من «حزب الله».
فالحرب على سوريا أخذت أبعاداً إقليمية ودولية، وهددت المنطقة بأسرها، وشنتها أميركا مع حلفائها وهي قد تشعل المنطقة إذا طالت أو توسعت وتحولها إلى كرة نار ملتهبة ستتدحرج من سوريا باتجاه دول أخرى تبدأ في الكيان الصهيوني وتتوسع إلى الخليج العربي وقد تصل إلى أماكن أبعد من ذلك وفق ما هدد الرئيس السوري بشار الأسد.
ولبنان بات في العاصفة السورية، ولا تنفع سياسة النأي بالنفس التي طرحها رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي من أن لا تصل رياحها إليه، ولا «إعلان بعبدا» من أن تقتلع الاستقرار والأمن منه، لأن الأزمة في سوريا ليست متعلقة باصلاحات داخلية على أهميتها وضرورة تحقيقها وتطوير النظام السياسي فيها، بل إن الصراع هو على سوريا كموقع جيو-ستراتيجي، يتعلق بمسائل عدة تبدأ من دورها في الصراع العربي-الاسرائيلي ودعمها للمقاومة إلى تحالفها الاستراتيجي مع إيران، وعلاقاتها التاريخية مع روسيا، ووزنها الإقليمي في صياغة احجام دول ومصالحها وخارطة وجودها الجيو-سياسي.
ففصل لبنان عن سوريا وعن أزماتها ليس ممكناً، وقد يصح ذلك لو أن المسألة تتعلق بشأن داخلي سوري، أما وإن القضية هي على التحالفات والمحاور والاستراتيجيات، فإن اللبنانيين منخرطون فيها وفق تكوين كل فريق منهم السياسي والعقائدي والطائفي، وهذا واقعه منذ قرون وليس عقود، ولذلك فإن الدعوة إلى تحييده عن الصراعات الخارجية، أو ابعاده عن المحاور العربية الاقليمية والدولية، لم تترجم على أرض الواقع، لأن الأرض هي التي أفرزت الانقسام السياسي، بين فريقين ومحورين، الأول مع النظام السوري ويتكون من «8 آذار» و«التيار الوطني الحر»، والثاني ضده ومؤيد لما يسمى «الثورة السورية» ويضم «14 آذار» والقوى الاسلامية الجهادية والتكفيرية.
هذا الانقسام وضع لبنان في أزمة معقدة لن تخرج منها سوريا إلا بتحقيق انتصار عسكري لفريق على آخر، وهو أمر مستبعد، أو بتسوية سياسية بعد أن يكون الطرفان المتصارعان قد أنهكهما القتال، وأصبحا عبئاً على حلفائهما أيضاً.
ولقد سعت دول مع لبنان ومنها تلك الأعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى أن يبقى بعيداً عما يجري في سوريا، لضمان استقراره الداخلي، إلا أن طرفي الصراع فيه، جاهرا في مشاركتهما بالقتال، وكل منهما مع طرف ضد الآخر، ولم يبقيا صراعهما في سوريا كما طلب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، بل أن الجماعات التكفيرية وبدعم من دول خارجية، قررت بعد سقوط القصير وريفها، نقل المعركة الى معاقل الحزب بدءاً من مركزه ومقر قيادته في الضاحية الجنوبية، وذلك للضغط عليه لسحب قواته من سوريا، التي تساهم في بقاء النظام واستمراره وصموده.
فتم ارسال سيارات مفخخة إلى الضاحية، وإطلاق صواريخ عليها، بهدف دفع الحزب إلى العدول عن قراره بالتواجد في سوريا وإلانكفاء إلى الداخل اللبناني ليخوض معركته فيه.. فكان تفجير بئر العبد ثم الرويس، وخلال شهر ونصف الشهر، رسائل دامية ليوقف الحزب مساندته للنظام السوري، إلا أن السيد نصر الله أعلن أنه سيزيد من قواته وسيذهب هو وقيادة الحزب إلى سوريا للقتال إذا اضطرهم ذلك، وهو رد عن أنه مستمر في خياره وقراره الوقوف إلى جانب النظام الذي لن يسقط كما أكد السيد نصر الله، وهو فتح بذلك الحرب على من أسماهم التكفيريين الذين قرروا أيضاً بدء معركة مفتوحة مع الحزب وحلفاء سوريا، فوقع الانفجاران في طرابلس امام مسجدين في وقت صلاة الجمعة، لإيقاع أكبر خسائر في الأرواح البشرية وإشعال الفتنة السنية-الشيعية، لكن من قرأ هذا العمل الإرهابي يرى أنه متمم لما حصل في الضاحية، وإن المواطنين لمعرفتهم بالمؤامرة التي يُعمل لها منذ سنوات وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي اشعال فتنة سنية – شيعية، فقد تنبأوا أن توضع سيارة او اكثر في منطقة ذات كثافة سنية لتوجيه أصابع الاتهام نحو «حزب الله» على أنه قام بعمل انتقامي رداً على تفجيري الضاحية وهو ما بادر إليه مشايخ سلفيون يتقدمهم داعي الاسلام الشهال وسالم الرافعي وغيرهما اضافة إلى النائب خالد الضاهر ذو الميول الاسلامية الذين اتهموا «حزب الله» مباشرة وقبل أن يبدأ التحقيق، والهدف من ذلك هو جر لبنان إلى فتنة سنية-شيعية، يراهن المجتمع اللبناني على أنها لن تحصل لأن الوعي لدى المواطنين أكبر من مرجعياتهم ومسؤوليهم. كما تعاطى «حزب الله» مع التفجيرين في طرابلس بكثير من المسؤولية، لأنه كان يعلم بما يفكر به التكفيريون، وهو ما نبه منه السيد نصرالله وقبل وقوع الانفجارين أمام المسجدين، حيث حذر بأن التكفيريين لا يتورعون عن ضرب منطقة فيها وجود سني أو مسيحي أو درزي، لأن في مخططهم قتل أكبر عدد من المواطنين الذين هم «كفرة ومرتدون وروافض» بعد أن سبق لهم أن مارسوا مثل هذه الأعمال الاجرامية في دول أخرى، لذلك كانت ردود الفعل أن المجرم واحد من طرابلس إلى الضاحية وبالعكس، وحصل هذا التضامن اللبناني بوجه التكفيريين.
مسلسل التفجيرات وقبله الصواريخ وضع لبنان أمام فوضى أمنية كانت أولى تداعياتها دعوات إلى «الأمن الذاتي» باجراءات تتخذها الأحزاب لمنع تكرار السيارات المفخخة أو الحدّ منها، كما فعل «حزب الله» في الضاحية ومناطق أخرى له نفوذ فيها ومهددة بالاستهداف. لكن وفق «14 آذار» وقوى اسلامية لم تفهم التدابير التي لجأ إليها الحزب سوى أنها «أمن ذاتي»، وما يحق لـ«حزب الله» يحق لغيره، وهو «المنطق» الذي دفع آلاف المسلحين الى الانتشار بشوارع طرابلس بعد تفجيري المسجدين.
أما «حزب الله» فيبرر ما يقوم به بـ«الأمن الوقائي» الذي لا بدّ منه لمساعدة الدولة وقواها العسكرية والأمنية خشية من تكرار المشهد العراقي الدموي، في لبنان الذي تزداد فيه الانقسامات السياسية والطائفية والمذهبية، كما تغيب المؤسسات الدستورية التي تستمر بالتمديد، وهو الفراغ المقنع، حيث تتعطل المرجعية ويغيب القرار السياسي للسلطة الواحدة المفقودة بالحكومة، مما يضع لبنان أمام فوضى خلاقة.
Leave a Reply