كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أعادت أعمال الشغب التي طالت مدينة طرابلس مؤخراً، عاصمة الشمال إلى قلب مسرح الأحداث في لبنان، وهي المدينة التي يحفل تاريخها، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، بالاضطرابات والانتفاضات الشعبية والمعارك المسلّحة، باعتبارها ساحة صراع بين قوى خارجية متنازعة بأدوات محلية طرابلسية ولبنانية وأحياناً فلسطينية وسورية، وقد تسلّل إليها المتطرفون الإسلاميون منذ عقود، وكادوا يحولونها –أكثر من مرة– إلى «إمارة إسلامية».
فجوة اجتماعية
عاصمة لبنان الثانية تعتبر من المدن الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفق تقارير دولية، إذ تقدر نسبة الفقر فيها بحوالي 70 بالمئة، أما نسبة التسرب المدرسي فتقارب 80 بالمئة، منذرة بجيل عاطل عن العمل وأكثر فقراً.
يتمركز الفقر في الأحياء القديمة لعاصمة الشمال في باب التبانة والقبة والزاهرية وجبل محسن وغيرها من الأماكن المكتظة بالسكان الذين نزحوا بغالبيتهم من أرياف الأقضية المجاورة، لاسيما من عكار والضنية، وشكّلوا أحزمة فقر في المدينة، التي انتقل جزء كبير من أهاليها للسكن في الأطراف، وتحديداً في الميناء والبحصاص ومنطقة المعرض، وبعض هؤلاء من كبار الأثرياء، كالرئيس نجيب ميقاتي وشقيقه طه، اللذين تقدّر ثروتهما بحوالي 7 مليارات دولار، وكذلك الوزير السابق محمد الصفدي، والنائب السابق روبير فاضل، وآل غندور ودرنيقة وكبارة، فانقسمت طرابلس بين طبقتين، فقيرة معدمة، وأخرى ثرية نخبوية، إضافة إلى طبقة وسطى تكوّنت من موظفين في القطاع العام وأصحاب مهن ومغتربين.
ومع هذا الانقسام الطبقي الحاد وازدياد معدلات الفقر وانعدام فرص العمل، شكلت طرابلس على مر السنين تربة خصبة لانتشار الحركات الثورية الداعية إلى التغيير، فوقفت في صف الدفاع عن القضايا العربية، وعلى رأسها فلسطين، فشهدت في العام 1969، بداية تحول نحو رفض النظام السياسي القائم في لبنان ورموز السلطة فيه، فظهرت في أحيائها الفقيرة حركة قادها فاروق المقدم، الذي تقرّب من الثورة الفلسطينية، وأخذ من قلعة طرابلس حصناً له في حالة تمرّد على قوى السلطة، فاصطدم بقوى الأمن والجيش، لتنشأ بعد ذلك في الأحياء القريبة من القلعة، ما سمي بـ«دولة المطلوبين»، بقيادة أحمد القدور، وهم من الأفراد الفارين من وجه العدالة، وقد حصلت صدامات بينه وبين القوى الأمنية التي تمكّنت في نهاية المطاف من إنهاء هذه «الدولة».
الحرب الأهلية
مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، كان لمدينة الفيحاء نصيبها من المعارك، حيث كان للقوى الوطنية والأحزاب اليسارية كـ«الشيوعي» و«القومي السوري» و«البعث» بجناحيه العراقي والسوري وجوداً قوياً فيها، إضافة إلى حركة القوميين العرب والمجموعات الناصرية المؤيدة للمقاومة الفلسطينية التي كانت متواجدة في مخيمي البداوي ونهر البارد.
وقد نشبت معارك عسكرية بين القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية من جهة، و«الكتائب» و«الأحرار» من جهة ثانية، حيث توزّعت الجبهات على زغرتا وشكا، قبل أن تسقط الكورة من يد القوميين في حرب السنتين، ولم يتغيّر هذا الوضع، إلا عندما انفصل الرئيس الراحل سليمان فرنجية عن «الجبهة اللبنانية» رفضاً لتحالفها مع العدو الإسرائيلي والذي ظهر علناً مع بشير الجميّل، وقد دفع فرنجية ثمن قراره الوطني بقتل عائلة نجله طوني في مجزرة إهدن، التي نجا منها سليمان الحفيد الذي كان عند جدّه أثناء الهجوم.
ومع تغير موقف آل فرنجية، حصل تواصل بين طرابلس وزغرتا والكورة، إلا أنه بحلول العام 1983 تحولت عاصمة الشمال إلى ساحة صراع من نوع آخر، بعدما أرادها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أن تكون موطئ قدم له في لبنان بعد طرده مع منظمة التحرير من بيروت، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
غير أن عرفات العائد من تونس، سرعان ما اصطدم بسوريا–الأسد التي لم تكن على علاقة جيدة مع «أبو عمار» وقد واجهته القيادة السورية، بانشقاق داخل «فتح»، من خلال العقيد «أبو موسى» الذي أسس «حركة فتح–الانتفاضة»، وأخرج «فتح–المركزية» من مخيمات الشمال، ومن طرابلس بعد معركة شرسة، فاضطرّ عرفات للخروج الثاني من لبنان عبر البحر نحو تونس، إلا أنه سلّم المدينة قبل رحيله إلى «حركة التوحيد الإسلامية» بقيادة الشيخ سعيد شعبان.
إثر ذلك أعلن شعبان، طرابلس «إمارة إسلامية»، وأزال تمثالاً لعبد الحميد كرامي من وسطها واستبدله بمجسم لكلمة «الله»، مازال قائماً في «ساحة النور»، كما جرى تصفية قيادات وأعضاء من الأحزاب الوطنية، وتحديداً من «الشيوعي» و«البعث» و«القومي» إلى أن اتّخذ القرار باجتثاث هذه الظاهرة في العام 1985، فتمّ اقتلاع «حركة التوحيد» بمعركة عسكرية خاضها الجيش السوري بمشاركة الحزب «القومي» وأحزاب أخر، انتهت بتحرير طرابلس من «الإمارة الإسلامية».
بعد الطائف
انتهت الحرب الأهلية في لبنان، بعد اتفاق الطائف، وفتحت المعابر، وبدأ التلاقي بين اللبنانيين، كما عادت المؤسسات الدستورية إلى الانتظام، فانتخب الرئيس رينيه معوض رئيساً للجمهورية، لكنه اغتيل بعد حوالي الشهر من انتخابه فخلفه إلياس الهراوي، ليتمّ تعيين عمر كرامي –وهو من طرابلس– رئيساً للحكومة، في العام 1991، ليكون ثاني رئيس للوزراء بعد الطائف، خلف الرئيس سليم الحص.
وقد ضمّت حكومة كرامي الأولية، سمير جعجع رئيس «القوات اللبنانية»، الذي قبل به كرامي رغم أنه متّهم باغتيال شقيقه الرئيس رشيد كرامي عام 1987، بتفخيخ طائرة مروحية للجيش، لكنه وتحت شعار طي صفحة الحرب الأهلية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبناءً لرغبة الرئيس السوري حافظ الأسد، وافق كرامي على توزير جعجع شخصياً، لكن الأخير رفض المشاركة في الحكومة كوزير دولة، مثل إيلي حبيقة وأسعد حردان (القومي)، فدعا إلى مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992، متمرداً على تطبيق الطائف الذي وافق عليه بمباركة البطريرك نصرالله بطرس صفير، على عكس العماد ميشال عون الذي رفض الاتفاق وقبل المنفى الفرنسي.
خارج الإنماء
ومع ترؤس كرامي للحكومة، حاول جعل طرابلس ضمن خطط الإنماء ما بعد الحرب، فسعى إلى تفعيل مرفأ المدينة وتوسيعه لتنشيط الحركة التجارية والاقتصادية، كما عمد إلى إعادة تأهيل معرض طرابلس الدولي، وتجهيز مطار القليعات تمهيداً لاعتماده كمطار دولي ثانٍ إلى جانب مطار بيروت، فضلاً عن خطط لإعادة تشغيل محطة تكرير النفط وغيرها من المشاريع التي كانت ستوفر آلاف فرص العمل الجديدة لأهالي الفيحاء وعموم الشمال، ولكن الرياح لم تجر كما تشتهي سفن الطرابلسيين.
فمع وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم عام 1993، تمّ إهمال العاصمة الثانية، ليتم التركيز على إعادة إعمار بيروت عبر مشروع شركة «سوليدير»، مما فاقم الهوة بين المدينتين وضاعف أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل في طرابلس، كما ارتفعت وتيرة الهجرة من المدينة مع تعاقب الحكومات التي لم تفِ بوعودها للمدينة قط.
غير أن طرابلس التي حضرت إليها في الآونة الأخيرة شركات أجنبية عديدة بحثاً عن فرص الاستثمار، ومنها شركة صينية عملت على تأهيل أجزاء من المعرض الدولي، عادت إلى دائرة الضوء مجدداً مع انفجار مرفأ بيروت الذي حول الأنظار إلى عاصمة الشمال كمرفأ بديل على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، خاصة مع إخماد نيران الحرب السورية والحديث عن إعادة الإعمار.
عروس الثورة
وفي ظل الإهمال وغياب الإنماء في طرابلس، كانت عاصمة الشمال أول مَن لبّى نداء «الثورة» على الطبقة السياسية في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وكانت ساحة عبدالحميد كرامي ملتقى المحتجين على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وحالة الفقر في المدينة التي لُقبت بـ«عروس الثورة».
وعلى عكس العنف والجولات المسلحة التي اعتادتها بعض أحياء المدينة خلال السنوات السابقة، كانت احتجاجات الحراك الشعبي في طرابلس سلمية بامتياز، إلى أن دخلت عليها عناصر استغلالية، فبرز دور تركي مستجد عبر دعم ما سمي بـ«المنتديات» برئاسة نبيل الحلبي المرتبط ببهاء الحريري الذي يطرح نفسه وريثاً لـ«الحريرية السياسية»، بعد فشل شقيقه سعد الذي لم يعد مرغوباً به سعودياً، وقد اتضح ذلك بعد احتجازه في الرياض وإجباره على الاستقالة. فتقدّم بهاء –ومازال– يخوض معركة القرار على الساحة السّنّية، مسجلاً حضوره في إطار «الحراك الشعبي» بأكثر من منطقة.
ومع توسع الحراك استقال سعد الحريري، وعُيّن حسان دياب رئيساً للحكومة، لكن الوضع المالي والمعيشي ازداد تعقيداً في طرابلس وعموم لبنان، لاسيما مع ظهور وباء كورونا الذي زاد الطين بلة في بلد يعاني من ركود الاقتصاد وانهيار العملة المحلية، ناهيك عن انهيار المؤسسات وتسريح العمال والموظفين بمختلف القطاعات.
وبينما كانت حكومة دياب تسعى إلى مكافحة جائحة «كوفيد–19» ووقف الانهيار المالي والاقتصادي، جاء انفجار مرفأ بيروت ليزيد من الاحتقان الداخلي ويكشف عجز الدولة ويدفع حكومة دياب إلى الاستقالة.
ومع تعثّر تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، بسبب الخلافات بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وفشل كل الوساطات الداخلية بهذا الشأن، تكاد الأزمة اللبنانية أن تصل إلى حائط مسدود لا كوة فيه سوى مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تحدث عن إمكانية قيامه بزيارة ثالثة لبيروت قريباً.
وكان ماكرون زار لبنان مرتين منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، حيث أطلق مبادرة إنقاذية تقضي بتشكيل حكومة إصلاحية، ورغم أن كل القوى السياسية في لبنان أبدت تأييدها للمبادرة الفرنسية، إلا أن الحكومة المنشودة لم تتشكل حتى الآن، مما يضع البلاد المهددة بالانهيار أمام منعطف خطير، قد يزداد تعقيداً عند أي استحقاق أمني، كما حصل في طرابلس الأسبوع الماضي.
مَن أشعل طرابلس؟
من «ثورة سلمية»، تحوّلت طرابلس بشوارعها وأحيائها، إلى ساحة عنف وتخريب كما حصل في احتجاجات بيروت سابقاً، إلا أن ما أصاب عاصمة الشمال مؤخراً لم يكن عفوياً، فقد استخدم المشاغبون قنابل يدوية وزجاجات «مولوتوف» لإسقاط الدولة من خلال إحراق مؤسساتها، فتم استهداف سراي الحكومة أولاً، لكن صدهم عن المبنى دفعهم إلى استهداف «خاصرة رخوة»، وهو مبنى بلدية طرابلس والمحكمة الشرعية السّنّية، فتمّ إحراقهما، كما حاول المعتدون استهداف مقر لـ«جمعية العزم» التي يتزعمها الرئيس نجيب ميقاتي، ليتضح أن الهدف الثلاثي من اضطرابات طرابلس هو إسقاط الرموز، والنيل من هيبة الدولة والمرجعيات الدينية والسياسية، بالتزامن مع حملات شنت على نواب المدينة ووزراء من أهلها.
أحداث طرابلس التي تخللها سقوط شهيد هو عمر طيبا، تؤشر إلى أن المدينة أصبحت ساحة تدخلات لقوى محلية وخارجية، وربما ساحة لتصفية الحسابات العالقة على مسار تشكيل الحكومة، وربما أيضاً موطئ قدم للأحلام التركية باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية.
لا شك أن أحداث طرابلس مفتوحة على المزيد من التطورات، وما هي إلا خطوة أولى لصراع قابل للتوسع ما لم تلجمه المبادرة الفرنسية.
Leave a Reply