«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
أنا الآن في قلب مدينة فريتاون وفي شارعها الرئيسي الذي تتوسطه شجرة ضخمة يزيد عمرها على الخمسين عاماً وقد بسطت ظلالها على مساحة كبيرة من الشارع الواسع العريض وفي طريقي للقاء جميل سعيد الأسطورة التي بدأت حياتها بداية متواضعة جدا وذلك بناء لموعد قد تحدد لي الأمس، وفي الساعة الواحدة ظهراً. وفيما كنت في طريقي إلى مكاتب جميل سعيد، التقيت بصديق لي وهو ممن قضوا سنوات في دنيا الإغتراب، وفي عالمه، وما يحتويه هذا العالم من إيجابيات وسلبيات، وقد عرف بأمر موعدي مع «شيخ» المغتربين فهمس في أذني قائلاً لي:
تقلبات سيكولوجيةأخشى عليك من هذا الديناصور، الذي حلّ في دنيا الإغتراب، كما يحل القضاء والقدر. فهو يبدو لك في اللحظات الأولى ناعم الملمس كالحرير تماماً ثم في الثلث الثاني من الوقت يبدو لك بوجهه الممتقع وفيه الكثير من القساوة أما في الثلث الأخير من الوقت يصبح بعدها جميل سعيد شخصا غير الذي التقيته وصافحته وطلب القهوة لك وأبدى إستعداداً تاماً لخدمتك، وكل ذلك التغيير والتبديل يتم بطريقة هادئة وبطيئة يمكن لها أن تخفى على الذين لا يعرفونه معرفة دقيقة وعن كثب!وقال: قد يكون لهذا التبدل السيكولوجي أسبابه ومسبباته، منها ما هو مهما ومنها ما هو سطحياً جدا.
كلام ساخن والمشكلة قادمة!بعد الذي سمعته وأنا في طريقي إلى مكاتب جميل سعيد حاولت أن أمسح من ذهني تحذيرات الصديق المتشائم كثيراً كي لا يعكر عليّ صفو هذا اللقاء المرتقب. وفي الصالون المخصص للزوار وفي الطابق الثاني من مبنى الشركة، جلست أنتظر وصوله، بعد أن علمت أنه لم يصل بعد كما قال لي مدير مكتبه محمد جواد. وفجأة دبت الحركة في مكاتب الشركة، وعندما وصل جميل سعيد إلى باب الصالون الذي كنت أنتظره فيه، توقف عن التقدم بعد أن رآني ورأيته، فوقفت كي أصافحه، بعد أن توقف هو عند باب الصالون، الذي وصله ولم يدخله بعد، ووقف خلفه ثلاثة أشخاص هم: نواف غندور، كانت له علاقة بالإعلام، ومحمد جواد (أبو يوسف) مدير مكاتب جميل سعيد في سيراليون، وكاظم العلي المسؤول المالي في الشركة الذي تم إعتقاله فيما بعد أن تمكن من الهرب محمد جواد وسبقه في الهروب جميل سعيد نتيجة حدوث إنقلاب عسكري اتهم بتدبيره جميل سعيد وأعوانه.
محكوم بالإعداملقد استطاع محمد جواد الهرب بعد أن هرب جميل سعيد غير أن كاظم العلي وقع في قبضة الإنقلابيين وقد صدر بحقه حكما بالإعدام شنقاً، وقد ألبسوه في السجن البدلة الخاصة بالمحكومين بالإعدام، وتمكنت من رؤيته وهو معتقلا ومرتدياً البذلة المميزة الخاصة بالمحكومين بأحكام الدرجة الأولى، هؤلاء الثلاثة كانوا وراء جميل سعيد عند مدخل الصالون الذي كنت أنتظره بداخله.الكلام الساخنلقد وقف جميل سعيد عند هذه النقطة وقفة تمثيلية ومسرحية «جيدة»، هو والثلاثة الذين وقفوا خلفه أما أنا فلا زلت حيث كنت أجلس في صدر الصالون. هنا رفع يده، مشيرا إليّ بأصبعه قائلا لي وبصوت عال سمعه من كان يقف خلفه جيدا. «أنا بعثت إليك في الأمس تبرعاً مالياً وأنت -أي أنا- رفضته»! قلت: نعم رفضته! لأنه من حقي أن أرفضه! هنا صاح وبصوت عال أكثر قائلا لي: ليش؟ قلت: أولا لأنني لم أؤد لك خدمة أستحق عليها أجرا وثانياً أنا لست هنا في مهمة جمع تبرعات أو صدقات أو خمس أو زكاة. وثالثاً أنت تنفق على الكثير من العائلات المستورة في سيراليون، وهذه العائلات هي أحق مني بهذا التبرع ورابعاً أن بيني وبينك كلاماً حول عدة صفحات إعلانية لعدة مؤسسات مالية وإقتصادية تملكها أنت في هذه البلاد ولم يكن بيننا أبدا أي كلام آخر حول تبرعات أو ما شابه ذلك إطلاقاً.
تنفيس الإحتقانهنا رأيت جميل سعيد لحظتئذ، مع الثلاثة الذين يقفون خلفه، وبعد أن سمعوا جوابي على سؤاله (ليش رفضت التبرع) رأيته وقد دخل الصالون وتهالك على كرسي ليستريح من متاعب كثيرة لعل أهمها كانت هذه المقابلة الساخنة التي تمت بيني وبينه وسمع فيها كلاماً ساخناً جدا لم يسمعه من أحد من الناس من قبل، وعلى مسمع من كبار مسؤوليه وموظفيه. وبصوت هادئ، قال لي لحظتئذ: إذن، الحق عليّ أنا. قلت: طالما صار الحق عندك، فقد وصلني حقي فتحركت مستأذناً بالإنصراف والقوم كلهم ينظرون إليّ نظرات غريبة وعجيبة وكأنني مخلوق عجيب هبط عليهم من كوكب آخر وكانوا بحالة لا أستطيع أن أصورها بدقة وبكلمات سريعة وعابرة وفيما كنت قد وصلت إلى حيث يجلس (أبو سعيد) رأيته يقف ويصافحني ويقول لي: أراك غدا الساعة 12 ظهراً، ثم ألحقني بسؤال قائلاً: هل معك سيارة؟ قلت: معي، قال: وهل قدموا لك قهوة وماءً بارداً، قلت: نعم، وشكراً. وإن هي إلا لحظات حتى كنت ألقي بجسدي متهالكاً على المقعد الخلفي للسيارة وتوجهت عائداً إلى الفندق.
شهر عسل تحوّل إلى شهر آلام وأحزانبدأت بعدها بزيارة رجالات الجالية وأركانها وكل بمفرده وكانت لي معهم لقاءات صحفية مطولة وتم إلتقاط العديد من الصور نشرت في حينه على صفحات المجلة اللبنانية الكبرى التي تعاملت معها زمنا طويلا. كما قمت بواجب تقديم العزاء بإسمي وإسم المجلة للعائلة اللبنانية التي فقدت في إنفجار إحدى الطائرات، شاباً وعروسه وغيرهما من المسافرين، حيث كان العريسان في طريقهما لقضاء شهر العسل في البرازيل الذي تحول فيما بعد إلى شهر المآسي والأحزان.ولم تكن هذه الخسارة الفادحة التي مُنيت بها عائلتيهما التي لفها الحزن بردائه الكثيف وإنما كانت الخسارة قد أصابت الجالية اللبنانية في سيراليون برمتها معلنة الحداد على ضحايا تلك الطائرة التي انفجرت بجميع ركابها، حيث لم ينجو منهم أحداً.
من سيراليون إلى إيراناشتدت في هذه الأثناء أزمة النفط الذي بات مفقودا في أسواق سيراليون، وأصيبت حركة المواصلات بما يشبه الشلل لذا أرتأوا أن يتوجه الشيخ حسين شحادة وجميل سعيد لزيارة إيران، ساعين الحصول على حمولة سفينة شحن للنفط أو أكثر، نظرا للعلاقات الطيبة التي تربط بين الجمهورية الإسلامية من جهة وبين سيراليون من ناحية ثانية.
مساعدة إيران لجمهورية سيراليون نفطياًلقد تكللت مساعيهما بالنجاح ومنحت إيران لجمهورية سيراليون كمية من النفط وذلك من أجل التغلب على الصعوبات التي يعاني منها شعب سيراليون الصديق. الأمر الذي ساعد على تمتين علاقات الصداقة والإحترام بين الدولتين إيران وسيراليون.
المساعي الحميدة تكللت بالنجاحوقد علمت أن الشيخ شحادة وجميل سعيد عادا من طهران إلى سيراليون، لذا رأيتني أتوجه إلى منزل الشيخ حسين شحادة في فريتاون، وهو صديق قديم أجلّه وأحترمه، الذي رحب بي ترحيباً كبيرا كما أنه سُعد كثيرا بوجود صحافي عربي في سيراليون لمتابعة التطورات التي يشهدها بعض دول غرب أفريقيا بين الحين والآخر. والشيخ شحادة كان قد اتخذ من سيراليون مقرا له ومستقرا بعد أن هاجر من لبنان ليستوطن غرب أفريقيا وقد استطاع أن يؤدي دوراً إسلاميا كبيرا خلال أو طوال مدة إقامته، كيف لا وقد بات منزله المجاور لمنزل رئيس جمهورية سيراليون يومئذ ستيفنسون ملتقى لأهل السياسة والعلم والأدب وأيضا رجال الصحافة العربية والأفريقية على حد سواء. وكذلك توجهت بعدها لزيارة جميل سعيد العائد من طهران إلى فريتاون، وكانت زيارتي له في منزله القائم على رأس تلة، وكان برفقتي أحد المغتربين الذين يرتبطون بجميل سعيد بعلاقات أخوية متينة.وحين دخلت الصالون الواسع العريض في منزل أبو سعيد، وحينما رآني قال لي أمام جميع زواره الذين جلسوا يحتسون الشاي: «بعدك هون يا علي»؟؟ قلت لن اسافر إلا بعد تنفيذ وعدك الذي قطعته على نفسك بالنسبة للمجلة وأهلها. رحّب بي، بعدها وأجريت معه حديثاً مختصراً نشر في حينه، وأمر بتنفيذ الوعد الذي قطعه لنا، وعادت الأمور بيننا إلى مجاريها الطبيعية!
دردشة مع حسن جميل سعيداستأذنته بالإنصراف وفي باحة المنزل وأمام مهبط طائرة الهليكوبتر الخاصة به التقيت بالشاب حسن نجل المغترب جميل سعيد ودارت بيني وبينه هذه الدردشة، وقد تم التقاط عدة صور لي وله، وكان الحوار التالي: «أخ حسن علمت أنك تدرس في لندن، فأية مواد تدرسها هناك»؟قال: أدرس إدارة الأعمال، وأنا الآن في السنة الثالثة وأسعى للتخرج بشكل جيد كي أعود إلى سيراليون لأخفف الأعباء والمتاعب عن والدي الذي يحمل فوق كتفيه هموم «نصف سكان العالم تقريباً!!».
فرحة لم تكتملحدثني بعدها حسن جميل سعيد عن طموحاته ومشروعاته وعما يمكن أن يؤديه للجالية من خدمات تخفف عنهم اعباء كثيرة وتجعله أكثر التحاماً مع أبناء الجالية التي يحبها وتحبه ويقدرها وتقدره وهو لا ينسى محبتها لوالده الذي لم يبخل يوماً عن أداء كل عمل فيه الخير كل الخير للجالية ولسيراليون وللوطن العزيز لبنان. ثم سألته إن كانت لديه الرغبة في أن يسير على خطى والده ويقتحم سوق تجارة الألماس والذهب وغيره، ضحك حسن جميل سعيد وقال: لا لا سأكون بعد تخرجي من الكلية في لندن مساعدا للوالد في أي حقل من الحقول العامة التي يراها لي مناسبة لخوض غمارها بعدها تصبح المسألة رهنا للظروف ولعوامل النجاح والتوفيق.وأضاف مكملا كلامه بأنه سيكرس حياته كلها في سبيل خدمة أبناء الجالية اللبنانية وغيرهم من أبناء الجاليات العربية، ولن يتوانى عن التعاطف مع الجميع للتغلب على أية صعوبات تعترض طريقهم في مسيرتهم التجارية والحياتية في دنيا الإغتراب. لم يشأ أن يتحدث عن والده، وعما يتحمله من مسؤوليات جسام، وإنما اكتفى بهذا القدر من الكلام على أمل أن ألقاه ثانية في وقت قريب.وللحديث تتمة في حلقة قادمة.
Leave a Reply