«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
تحدثت في الحلقة الماضية عن لقائي بحسن جميل، وفي هذا اللقاء السريع بيني وبينه كنت أود أن أقف على رأيه – وهو الشاب المثقف – الذي لا يزال يدرس في لندن، حول سلوكيات والده العامة وكيف هي علاقاته مع شرائح المجتمع الإغترابي اللبناني الموجودة في سيراليون، وعن أسباب هذا التباعد القائم بين والده، وبين معظم المغتربين اللبنانيين الذين يختزنون في أنفسهم مشاعر «الحقد والعداء» وعن أسباب هذا الصراع الخفي بين الطرفين وعمن سيكون الرابح يا ترى؟كنت أود أن أصارحه بهذه التساؤلات لكنني ترددت لسبب أن حسن هذا، لا يزال في بداية حياته وبداية إحتكاكه بأبناء الجالية، وسبب آخر أنه أمضى سنوات من عمره بعيدا عن لبنان وسيراليون، ويقيم بشكل مستمر في لندن، لذلك ارتأيت الا أرهقه في الإجابة على أسئلة، سيما وهو لا يزال في بداية الطريق وقد لا يكون ملماً في حقائق الامور التي يعرفها والده المخضرم.
تساؤل فـي محله!هذا التساؤل يقول: هل كان جميل سعيد إبن العقد السادس من عمره والذي يمتلك كماً كبيراً من الخبرة والتجارب، الخبرة التي اكتسبها وهو يخوض غمار الحياة ومصاعبها، والتجارب الكبيرة التي مرّ بها تلك التي تعلم منها قطعاً ما لم تتح له الفرصة أن يتعلمها على مقاعد الدراسة التي لم يسبق له أن جلس عليها. هل كان جميل سعيد في تصرفاته عاقلا، هل كان هذا الرجل المخضرم حكيما في تعامله مع مختلف فئات الشريحة الإغترابية المكونة منها جاليتنا اللبنانية الكريمة في سيراليون؟ أم أنه كان إنساناً إنطوائياً لا يريد أن يكشف أوراقه أو معظم ما كان يخفيه في أعماق نفسه وقلبه من أحاسيس ومشاعر، قد لا تكون أو لا تصب في مصلحة العدد الأكبر من أبناء الجالية التي اتعبته وأقلقته ونغصت عليه في كثير من الأحيان عيشه وحياته، وفي النهاية كان يخرج من معركة المواجهة مع العديد من الخصوم مثخناً بالجراح! علاقات مهترئة لا يمكن البناء عليها أبداولكي نصل إلى جواب حقيقي لهذا التساؤل أرى أنه من الإنصاف أن نمعن النظر في أية نوعية من العلاقات كانت قائمة بين كل من جميل سعيد وخصومه الذين كلما ازداد ثراء وغنى هذا الديناصور كلما كثرت أعداد خصومه وازدادت النقمة والكراهية له واشتد أوارها.هنا أجيز لنفسي أن أتذكر هذا القول الذي يعبر كل التعبير عما بلغته رداءة العلاقات الإجتماعية بين الطرفين والذي يقول: كل ذي نعمة محسود!مرّت الأيام وبسرعة، حاملة في طياتها شجون وشجون، وجاءت فترة لم يعد للناس في سيراليون سوى الحديث عن جميل سعيد، وماذا فعل وماذا اشترى وكم ربح من المال وكم دفع ثمنا للبضاعة وكأني بهذه الدولة الأفريقية لم يعد فيها من قضايا سوى قضية واحدة منحصرة بجميل سعيد فقط، مع العلم أن سيراليون تحتضن المئات مثل جميل وكلهم من أصحاب المليارات وكلهم يعيشون في أبراجهم العاجية وفي مستويات ملوكية قل أن تجد مواطناً يوازيهم ثراء وبهورة وبعزقة وإنفاقاً وتبذيراً، فضلا عن المقامرة في أندية القمار وعلب الليل وتبديد الأموال يمنة ويسرة.وماذا يعني أن المغتربين الأفاضل في سيراليون لم يعد لديهم أية أحاديث يتبادلونها سوى أخبار (أبو سعيد)! إن الأمر ليدعو إلى العجب، وتكمل الأيام دورتها، وتبدأ دواليب جميل سعيد تدور دورانها العكسي وتنفيذا للإحتقانات المتراكمة عبر سنوات وأشهر، كان لا بد للإنفجار أن يقع. ولا بد للأمور أن تصل إلى النهاية المتوقعة.
دوران عكسي مدمركان جميل سعيد إمبراطوراً، يعين الوزراء ويقيلهم وكانت كلمته نافذة، وكان له الرأي المطاع، وفجأة تبدل كل شيء وأصبح إبن حاريص متهما بتدبير الإنقلاب العسكري الذي حاول الإطاحة بنظام الكولنيل مومو، ولقد تم إعتقال العشرات ممن تربطهم بسعيد أواصر المودة والإحترام، وصدرت الأوامر باعتقال جميل سعيد، ولما تمكن من الخروج من سيراليون عبر وسائله الخاصة، وزعت منشورات ووزعت الصور وألصقت على جدران ومباني الشوارع تقول: جائزة عشرة آلاف دولار لمن يدلي بأقوال ومعلومات تؤدي إلى القبض على جميل سعيد!بعد أن غادر البلاد تمت عمليات المصادرة والسلب والنهب في ممتلكاته، ومكاتبه ومحتوياتها، كل ذلك حصل في وقت كان فيه صاحبنا قد أصبح في أسبانيا وفي مرباي وهو يعرض جسده للشمس ومن ثم يأخذ حقه من التمارين الرياضية والسباحة في مياه البحر المتوسط. يا سبحان الله كم تتبدل الأمور وكيف فجأة يصبح الأصدقاء والمستفيدون من جميل سعيد أعداء الداء له، دون وازع من ضمير ولا وجدان.ولذلك صدق من قال: حينما تقع البقرة يكثر حمالين السكاكين، ويتحركوا حتى يصبح كل واحد منهم أكثر من بروتس الذي كان له دوراً غريباً عندما بدأت الخناجر تنغرز في جسد القيصر، فكان بروتس هذا من المقربين جدا له لكنه حينما سقط القيصر، تقدم بروتس هذا بخطوات لئيمة جدا، وعنترية جدا، وأغمد خنجره في صدر القيصر الذي تهاوى وحينما فتح القيصر عيناه وهو المثخن جسده بالطعنات القاتلة قال كلمته التي سجلها له التاريخ مخاطباً بروتس والقيصر في النزع الأخير: حتى أنت يا بروتس؟ الله الله كم في هذه الدنيا من العجائب والغرائب والمخجلات.
إعصار فهدوء ثم ثورةبعد أن هدأ الإعصار الذي أطاح بجميل سعيد وفرض عليه الهروب إلى خارج سيراليون، سرت في أوساط الجالية اللبنانية بعض الأقاويل المغرضة، من أن بعض اللبنانيين الحاقدين على إبن سعيد قد أسهم في تأجيج النار التي اشتعلت ضد أبو سعيد، كما كان لهذا البعض إسهاماتهم المالية لإنجاح الحركة الإنقلابية ضد الفئة التي كانت تحكم البلاد يومئذ، وأن هذا البعض سرّه كثيرا أن توجه هذه اللكمة القاضية إلى جميل سعيد وإلى نفوذه وإمكانياته السياسية والمالية والإجتماعية، الأمر الذي أدى به إلى الهروب وبسرعة صاروخية.أقول بعد هذا، إن هذه الأقاويل لم تكن حقيقة أبدا، ولم يُسهم أي مغترب في عملية إزالة جميل سعيد من موقعه السياسي والمالي والإجتماعي إطلاقاً، بل كانت الجالية برمتها تدعم إبن سعيد وتؤازره وتتمنى له، بعد هروبه العودة إلى سيراليون، بعد أن تهدأ الأمور وتنجلي الحقيقة بشكل واضح وصريح.كانت العاصفة قد هدأت هدوءاً عاماً، وتوالت الإتصالات بجميل سعيد طالبة منه العودة إلى «عرينه» وبعد مرور فترة زمنية، عاد جميل سعيد إلى سيراليون، ويا ليته لم يعد. فلهذا نرى أنه لابد من حلقة أخرى تكشف ما جرى لجميل سعيد ولعائلته وكيف أن نجله الشاب حسن تمت عملية إغتياله بدم بارد ولا بد من القول: أنه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.خسر جميل سعيد إبنه الشاب الجامعي حسن، وخسر ماله وصودرت أمواله، وأعماله، وأنزل به الأخصام والأحباء هزيمة كبرى، أعادته إلى ما تحت الصفر، بمراحل ولم يدم به الأمر طويلا، وقد التقيت به قبل ذلك أكثر من مرة في بيروت وبمكتبه قرب السفارة الكويتية بلبنان، ثم التقيته وكان فاقدا لوعيه في حسينية حاريص حينما أقيم لنجله حسن ذكرى مرور أسبوع على إغتياله وهو يدافع عن والده في فريتاون.يوم جاءت أكثر من فرقة عسكرية مدججة بالسلاح واقتحمت منزل جميل سعيد حيث يقيم مع عائلته، فتصدى لهؤلاء الجناة جميل وإبنه حسن، وفجأة انهالت رشقات الرشاشات على الوالد جميل وعلى إبنه حسن الذي فتح ذراعيه واحتضن والده ليحميه من زخات الرصاص المنهمر، فأصيب حسن، بعدة رصاصات قاتلة، كما أصيب والده جميل إصابات غير خطيرة، الأمر الذي خرّ فيه حسن قتيلا مضرجاً بدمائه، وهربت المجموعة المسلحة بعد أن اعتقدت أنها قتلت الوالد ومعه ولده.لقد أراد حسن أن يحمي والده، لكن القدر كان أسرع فذهب حسن إلى ربه ضحية من ضحايا الغدر وبقي والده حيا يرزق، لكنه مات قبل أن يموت ميتة نهائية، أكثر من عشرين مرة، خاصة بعدما تأكد لديه أنه خسر نجله الشاب حسن الذي ذهب ولن يعود. رحمه الله.
Leave a Reply