بجرة قلم وعلى الهواء مباشرة وبطريقة استعراضية، وقَّع رئيس تلفزيون الواقع دونالد ترامب قرار الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء إجراءات نقل السفارة الأميركية اليها من تل أبيب، وبطريقة مهينة لملايين المسلمين والمسيحيين مزدرياً حلفاءه من أنظمة الردَّة العربية الذين كانوا وكأنهم ينتظرون معجزة ما تغيِّر رأيه رغم الإعلان مسبقاً عن نواياه.
وبعد إصدار القرار المشين، الذي أشعل العالم وعزل ترامب حتى عن حلفائه الغربيين، إنتظر العرب ثلاثة أيام حتى يوم السبت لعقد اجتماعٍ لوزراء خارجيتهم في القاهرة دليلاً على ردهم الفاتر وعدم استعدادهم لمعاداة أخطر وأعتى عدو للعرب والمسلمين والمسيحيين العرب، احتل منصب الرئاسة في أميركا. الحق مع الإعلامي المصري معتز مطر الذي دائماً يتساءل في مقدماته النارية المتلفزة: ماذا سيحدث للعالم لو اختفى العرب عن وجه الأرض؟! لاشيء! وتأكيده صحيح بأن سبب منع وحدة العرب هو الحكَّام الخونة المتواطئون!
وفي الإجتماع الشكلي الهزلي التافه كلياً للوزراء العرب، لولا الوزير الشهم جبران باسيل، شوهد وزير خارجية الوهابيين الدواعش عادل الجبير مشغولاً بهاتفه، لا بالقدس، وبقراءة الرسائل على تطبيق «الواتساب» أو ربَّما متلهياً بلعبة «كاندي كراش» وهذا دليل على مبلغ اهتمامه بخطورة الموقف الجلل. وبينما كان المؤتمر الحقير منعقداً كان وفد من البحرين يزور الأراضي الفلسطينية المحتلَّة برئاسة رجل دين يلبس عمامة شيعية المقصود منها التملص من عواقب الزيارة المشؤومة على طاغية البحرين، لو حصلت، عن طريق وضع «شيعي» في «بوز المدفع» وتلبيسها له وتكفير طائفة بأكملها، لكن ما لا يعرفه زنيم البحرين وسيده في الرياض أن الخيانة لا دين ولا جبة ولا عمامة لها وهذا الشخص منبوذ من قبل شعب البحرين المقاوِم. والمضحِك في كل هذا أن الزيارة البحرانية تمت برعاية الحاكم الطاغية بغرض التسامح (مع اليهود) بينما يقوم بقتل شعبه في المنامة ويفتك بالعلماء وحتى الأطفال. هذه الخيانة لم تكن لتتم لولا موافقة بني سعود الذين هم غارقون حتى أذنيهم بالتطبيع مع العدو وهم سبب تمييع الانتفاضة والمقاومة رداً على قرار ترامب. الحكَّام العرب الآخرون مثل سلمان والسيسي وعبدالله ومحمود عبَّاس يبدون قلقين اليوم من المقاومة لقرار ترامب أكثر من خسارة القدس، خصوصاً عبَّاس الذي هو أكثر المستائين من ترامب ليس بسبب ضياع القدس، بل لأنه اليوم مضطر لمسايرة الغضب الشعبي بعد أن وضع كل بيضه في سلّة إسرائيل وأميركا منذ اتفاقية أوسلو الجهيضة.
وفي الوقت الذي عمَّت فيه التظاهرات الشعبية في معظم الدول العربية، ما عدا السعودية التي لم يتطرق فيها حرامي الحرمين خلال خطبة الجمعة للقدس ولو بكلمة واحدة، كان ابن سلمان منشغلاً في السماح بفتح ثلاث دور سينما في السعودية بعد قرن من المنع وهذا ما شغل بال الإعلام الأميركي والغربي بالاضافة إلى اللوحة التي اشتراها بالسر وثمنها 450 مليون دولار بينما عاصمة العرب والمسلمين والمسيحيين ُتغتَصَب مرة جديدة.
لكن أفلام بن سلمان المتهورة وأسياده لن تلقى النجاح ورغم تواطؤ مملكته في بيع القدس، إلا أن ترامب أسدى للقضية الفلسطينية، التي وضعتها الأنظمة في ثلاجة التواطؤ والخلافات والإخماد، بجعلها قضية العرب الأولى مجدَّداً وتسلُّم محور المقاومة المنتصر على التكفيريِّين الوهابيين في سوريا والعراق، زمام القضية التي وُجد من أجلها. بالواقع لا يمكن أن يكون هناك أفضل من هذا التوقيت بُعيد إعلان العراق تحريره التام من رجس الدواعش بفضل شعبه ومرجعيته الرشيدة وجيشه وحشده الشعبي.
ولقد كان من الطبيعي جداً أن يقوم الشيخ قيس الخزعلي زعيم «عصائب أهل الحق» العراقية بزيارة للحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلَّة فثارت ثورة عملاء إسرائيل لأن الخزعلي تجوَّل بلباسه العسكري لا بالزي الديني، وسبب إنزعاج العدو الذي رأى بالزيارة رسالة استراتيجية من المقاومة التي لا تحتاج لتوجيه رسائل لأحد لأنها تقول وتفعل جهراً. لكن هؤلاء المحتجين بأنكر الأصوات لم نسمع إحتجاجهم على الخرق الإسرائيلي اليومي لسيادة لبنان ولا لاستخدامه الأجواء اللبنانية للاعتداء على سوريا، حتى أنهم لم يرفعوا عقيرتهم بالصراخ عندما جال ذلك الإسرائيلي السائح في الحرم المكي كتفاً بكتف مع صديقه السعودي، حتى لا ينفضح بني سعود. بل ماذا عن الموتور العميل الصهيوني السفيه دانيال الغوش (الملقَّب بجيري ماهر) الذي يتقيأ بكلام مبتذل ضد المقامات الدينية والوطنية، وكيف يُسمَح له بزيارة لبنان من دون رقيب ويلتقي مسؤولين من بقايا «14 الشهر»؟
بالعودة لقرار اغتصاب القدس، المشكلة في ترامب أنه لا يعامل الولايات المتَّحدة حتى كواحدة من شركاته التجارية، حيث لا يمكن أن يتخذ قراراً من شأنه تعريض مصلحته التجارية ومصلحة شركته للخطر، لكنَّه يتهور عندما يتعلَّق الأمر بسياسة بلده مستنداً إلى قاعدته الموتورة العنصرية مع بعض الإنجيليين وعلى رأسهم نائبه مايك بينس الذي كان وجهه متوهجاً للقرار وأذاع رسالة حميمة وروحية للشعب اليهودي منتشياً ومتعهداً دائماً بخدمة إسرائيل. في الواقع، بعد تجربة ترامب وتيلرسون تبيَّن أن رجل الأعمال الناجح لا يعني بالضرورة حاكماً وسياسياً بارعاً. والحقيقة أنه لا يبرع في التجارة والسمسرة والسياسة والوظيفة الحكومية معاً إلا ساسة لبنان التجار لأنهم معظمهم رمز الفساد واللصوصية (الجرّاح مثالاً).
ولسوء طالع ترامب، إلا أنه رغم هذه الخدمات «العليلة» التي يقدمها لإسرائيل، يستمر الاعلام الصهيوني الأميركي مثل «سي أن أن» وصحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» في تبيان أخطائه والتهجم عليه. فقد أعادت «البوست» اكتشاف النساء اللواتي يزعمن تحرش ترامب بهن جنسياً لتشغله أكثر وتورطه. والمشكلة الكبرى هي أنه إذا عُزِل ترامب، سيكون بنس أسوأ وأخطر من ترامب وصهره من حيث التبعية لإسرائيل، ولكن عرب الردَّة بالطبع سوف يحسنون وفادته أكثر من «أبو إيڤانكا» كما فعلوا عندما استقبلوا ترامب استقبال السلاطين في أيَّار (مايو) الماضي وجمعوا له كل رؤساء وملوك العرب والمسلمين وكان عددهم ضعف الذين حضروا القمة الإسلامية في اسطنبول والتي تمخض عنها كلام فارغ رغم تهديدات وعنتريات السلطان العصملي ولم ينقذ ماء وجهها إلا الرئيس اللبناني المقاوِم ميشال عون صاحب الخطاب الواقعي والصحيح.
كل القمم المتخاذلة هي كما يقول المثل «تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي» والتاريخ لن يرحم الخونة والمتقاعسين عن نصرة القضية وللقدس رب يحميها وسواعد المقاومة والشعوب التواقة للحرية!
Leave a Reply