مريم شهاب
في عيد الأضحى المبارك، الذي يذكِّرُنا قدومه بفضائل التضحية والإيثار والعمل الصالح، أحببت أن أدوِّن ما يجول بخاطري في شأنٍ معين، قد يعني القرَّاء أو البعض منهم وقد لا يعني آخرين ولا يلفت انتباههم حتى.. وللجميع منِّي المحبة والتقدير.
في أحيان كثيرة، وعبر دفقة واحدة، أشعر شعوراً عارماً وحاسماً، بأنني إنسان بوذي، يهودي، مسيحي ومسلم، أو على دين الإغريقيين القدامى، عبَّاد آلهة الجمال وما قبلهم من بشرٍ وأقوام. أشعر بأنني واحد من الناس الذين قد أعدتهم الطبيعة لكي يحيوا صفاء السريرة وصدق الوجدان وبساطة الحياة وعفوية تقدير الأمور، بعيداً عن التنظير والتفسير والتبرير.
وقد يبدو هذا الشعور لتجار العقائد وشيوخ التأويلات وأصحاب النظريات المصطنعة، شعوراً غريباً وغير معقول لإنبعاثه من البساطة والعفوية وصفاء الطبع في مواجهة الغايات الشاذة وقسوة التوحش في هذا العالم اللا إنساني.
رغم ذلك عندي إيمان داخلي أن الإحساس الإنساني يجعل الإنسان السويَّ، حين يصفو وجدانه ويعود إلى أصوله، لينهل من ينابيع الإنسانية بصورة مباشرة ويصبح جزءاً من كل أمة وأخاً لكل إنسان في كل زمانٍ ومكان، فلا تأسره العقائد الدينية ولا الأعراف الإجتماعية والمبادئ الحزبية. وما يهمني وما يعنيني، أولاً وأخيراً، هو الإنسان إن كان بوذياً، يهودياً، مسيحياً، مسلماً أو عابداً لأفروديت أو عشتروت، وما يقدمه لي من إلفة وحنان، وبعد ذلك تأتي العقائد الروحية والتقاليد الإجتماعية.
ما أوحى إلي هذه الخواطر -وأحببت مشاركة القراء فيها- هو تطويب الراهبة الأم تيريزا كقديسة، من قبل البابا فرنسيس، رأس الكنيسة المسيحية في الفاتيكان. هذه السيدة العجيبة التي عاشت حتى ماتت في سن السابعة والثمانين، في أفقر أحياء مدينة كلكتا الهندية وغيرها من المدن المنكوبة، تخدم المجذومين وذوي العاهات واللقطاء وجموع المساكين الذين تقذفهم الحياة على ساحل بحرها الموحش. لم تقم بأي نشاط تبشيري، كان قولها دائماً لمن يسألها لماذا لا تبشِّر بدينها: نعم، أنا أقوم بنشاط تبشيري.. أنا أساعد المسلم على أن يكون مسلماً أفضل، والهندوسي أن يكون هندوسياً أفضل والمسيحي أن يكون مسيحياً أفضل. بثوبها وغطائها الأبيض الذي اشتهرت به، كانت تسافر وتدخل بلاد العالم، مثل جدول رقراق يسيل ماؤه، بلا حفلات استقبال وتوديع، ترافقها فتيات في مثل زيِّها، سمراوات وهنديات وخليطات من أجناس عديدة، وهي تحاول أن تساعد ضحايا المجاعات أو الحروب أو الكوارث.
هذه الأم الكريمة، والإنسانة الضئيلة الجسم، المغضنة الوجه، المتحدثة بصوتٍ خافتٍ، بلكنة هندية مفعمة بالمرح، كانت ولا زالت بعد موتها طاقة روحية هائلة للمنكوبين والمحزونين والمنسيين في هذا العالم.
شاءت الأقدار، وكما كانت هي تريد أيضاً، أن ترحل بلا ضجيج وبلا ضوضاء، حيث توفيت الأم تيريزا في أعقاب مصرع الأميرة ديانا وما صحب ذلك من موجات إعلامية وحضور رسمي وجماهيري وحزانى غير مصدقين، وجاء موت الأم تيريزا، حاملة جائزة نوبل للسلام، مثل نسمة رقيقة في أعقاب عاصفة عاتية أو كأنها صدى ضعيف لصوت هادر.
في عالمنا المتوحش والمتخلف، كم نفتقد لسيدات وأمهات مثل الأم تيريزا!
Leave a Reply